الإجابة
الحمد لله
قال الله عز وجل : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) يونس/ 94 .
ومعنى الآية : إن كنت يا محمد - صلى الله عليه وسلم - في شك مما أنزلنا إليك أنه
الحق ، فاسأل الذين يقرءون التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى ، فإنهم يعلمون أنه
الحق ، فلا تكونن من الممترين الشاكين ، ولكن كن من المؤمنين الموقنين .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين الموقنين ، بل هو أعظم الناس إيمانا
ويقيناً ، ولم يشك قط في الذي أنزل إليه من ربه أنه الحق ، ولم يسأل قط عن ذلك أيضا
.
وقد صح عن سعيد بن جبير قال : " ما شك وما سأل " انتهى من " تفسير الطبري "
(15/202) .
وتعليق الحكم بالشرط لا يستلزم تحقق الشرط ووقوعه ، كقولك للرجل : إن كنت لا تعرفني فاسأل فلاناً ، فإن هذا لا يلزم منه أنه لا يعرفك .
فمعنى الآية : إن كنت في شك
فاسأل ، وإن كنت غير شاك فلا تسأل ، فإنما يسأل الشاك أو الجاهل ، أما العالم
الموقن : فكيف يسأل ؟
ففي الآية نفي الشك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمْرُ الشاكين المرتابين أن
يسألوا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشُكَّ وَلَمْ يَسْأَلْ ؛
وَلَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُعْدَمُ
عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَفِي ذَلِكَ سَعَةٌ لِمَنْ شَكَّ ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ
، أَوْ يَزْدَادَ يَقِينًا " انتهى من " مجموع الفتاوى " (4/209) .
وقال ابن جرير رحمه الله :
" فإن قال قائل : أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من خبَرِ الله أنه
حقٌّ يقين ، حتى قيل له : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك ) ؟
قيل : لا . وكذلك قال جماعة من أهل العلم .
فإن قال : فما وجه مخرج هذا الكلام ، إذنْ ، إن كان الأمر على ما وصفت ؟
قيل : قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا ، استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه
: " إن كنت مملوكي فانتهِ إلى أمري " ، والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل
له ذلك ، أنه عبده . كذلك قول الرجل منهم لابنه : " إن كنت ابني فبرَّني " ، وهو لا
يشك في ابنه أنه ابنه .
وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم ، وذكرنا ذلك بشواهده ، وأنّ منه قول الله : (
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) سورة المائدة/ 116 ، وقد
علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك .
وهذا من ذلك ؛ لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته ، والله
تعالى كان عالمًا بذلك ؛ ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه ، بعضهم بعضًا ، إذْ كان
القرآن بلسانهم نزل " انتهى من " تفسير الطبري " (15/201-203) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" أشكلت هذه الآية على كثير من الناس ، وأورد اليهود والنصارى على المسلمين فيها
إيرادا ، وقالوا : كان في شك ، فأُمِر أن يسألنا ؟
وليس فيها بحمد الله إشكال ، وإنما أُتِيَ أشباه الأنعام من سوء قصدهم ، وقلة فهمهم
؛ وإلا فالآية من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وليس في الآية ما يدل على وقوع
الشك ولا السؤال أصلا ، فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط ، بل ولا على إمكانه ،
كما قال تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) الأنبياء/ 22 ، وقوله : (
قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ) الإسراء/ 42 ،
وقوله : ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) الزخرف/ 81 ، وقوله : ( ولقد
أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ) الزمر/ 65 ، ونظائره ، فرسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل ...
فإن قيل : فإذا لم يكن واقعا ولا ممكنا ، فما مقصود الخطاب والمراد به ؟
قيل : المقصود به : إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد ، وأنهم مقرون بذلك لا
يجحدونه ولا ينكرونه ، وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه بذلك ،
وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه ، فمن شك في ذلك ، فليسأل أهل الكتاب ،
فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارة ، وأدلها على المقصود ، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي
لم يشك قط ، ولم يسأل قط ، ولا عرض له ما يقتضي ذلك . وأنت إذا تأملت هذا الخطاب
بدا لك على صفحاته : من شك فليسأل ، فرسولي لم يشك ولم يسأل " انتهى ملخصا من "
أحكام أهل الذمة " (1/99-105) .
وقال علماء اللجنة الدائمة
للإفتاء :
" تعليق الحكم بالشرط لا يستلزم تحقق الشرط ووجوده ؛ إذ قد يتعلق الحكم بشرط ممتنع
كما في قوله تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى
قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) الآيات
إلى قوله سبحانه : ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، فأخبر
سبحانه بأن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، مع انتفاء الشرك
عنهم ، بل مع امتناعه منهم ؛ لأنهم قد ماتوا على التوحيد ، ولأنهم معصومون من الشرك
.
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين* بَلِ اللَّهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل أحدا من أهل الكتاب ؛ لأنه لم يفهم من
ذلك الخطاب طلب السؤال لإزالة شك ؛ بل فهم أن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما
يصدقك ، فيما كذبك فيه الكافرون ، كما في قوله تعالى : ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ
شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ، وقوله سبحانه
: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، وقوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) إلى أمثال ذلك من
الآيات التي تدل على أن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدق محمدا صلى الله
عليه وسلم ، فيما كذبه فيه المشركون من الدعوة إلى التوحيد ، وفي أن الرسل إلى
البشر من البشر ، كما هي سنة الله تعالى الحكيمة .
وقد أشار الله إلى ذلك في أول هذه السورة سورة يونس قال تعالى : ( أَكَانَ
لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) "
انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى " (3/345-346) .
والله أعلم .