الإجابة
الحمد لله
نزل القرآن بلسان عربي مبين ، ومن أساليب العرب في البيان أن يتحدث المتكلم عن نفسه
تارة بضمير المتكلم ، وتارة بضمير الغائب ، وتارة بضمير المفرد ، وتارة بضمير الجمع
، وهذا من التفنن في الأسلوب ، وهو من البلاغة والفصاحة ، ومثل هذا لا يدركه إلا
أهل اللسان العربي الذين لهم دراية كافية وإلمام بأساليب الخطاب .
فالقرآن لم ينزل بأسلوب واحد كما يظن السائل ، وإنما تفنن في الأساليب ونوّع فيها ،
وهذا من تمام الإعجاز والبلاغة .
يقول الدكتور عبد المحسن المطيري في كتابه "دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم" (ص
304):
" من أساليب العرب في البيان : أن يتحدث المتكلم عن نفسه تارة بضمير المتكلم ،
وتارة بضمير الغائب ، كأن يقول المتكلم : فعلت كذا وكذا، وذهبت ، وآمرك يا فلان أن
تفعل كذا، وتارة يقول عن نفسه أيضا: إن فلانا - يعني نفسه - يأمركم بكذا وكذا ،.
وينهاكم عن كذا، ويحب منكم أن تفعلوا كذا ،. كأن يقول أمير أو ملك لشعبه وقومه وهو
المتكلم: إن الأمير يطلب منكم كذا وكذا. وهو يشير بذلك أن أمره لهم من واقع أنه
أمير أو ملك ، وهذا أبلغ وأكمل من أن يقول لهم : إنني الملك وآمركم بكذا وكذا .
فقوله: إن الملك يأمركم . أكثر بلاغة من قوله : إنني الملك وآمركم.
وقد جاء القرآن بهذا النوع من البيان , فظن هذا الذي لا يعرف العربية أن الله لا
يمكن أن يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب , وأنه كان لا بد وأن يقول: (نزلت عليك يا محمد
الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه) ونحو ذلك ، وهذا جهل بأساليب اللغة العربية ،
وموقعها في البيان والبلاغة ، ولا شك أن خطاب الله وكلامه عن نفسه بصيغة الغائب ،
أبلغ من أن يقول سبحانه : "ألم، أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم نزلت عليك
الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الآيات " انتهى باختصار .
ومن المعلوم من عادة العرب
في بلاغتها : أنها لا تسير على أسلوب واحد في كلامها ، بل تنتقل من أسلوب لآخر ،
حتى في نفس السياق ، فضلا عن أن يكون ذلك منظورا إليه باعتبار مقامين ؛ وهذا فن من
فنون البلاغة اللغوية يعرف بــ " الالتفات " .
قال الزركشي رحمه الله :
" الالتفات : هُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ ،
تَطْرِيَةً ، وَاسْتِدْرَارًا لِلسَّامِعِ، وَتَجْدِيدًا لِنَشَاطِهِ ، وَصِيَانَةً
لِخَاطِرِهِ مِنَ الْمَلَالِ وَالضَّجَرِ بِدَوَامِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عَلَى
سَمْعِهِ ، كَمَا قِيلَ :
لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إِنْ كَانَتْ مُصَرَّفَةً ... إِلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ
حَالٍ إِلَى حَالِ
قَالَ حَازِمٌ فِي "مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ": وَهُمْ يَسْأَمُونَ الِاسْتِمْرَارَ
عَلَى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ ، أَوْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ ، فَيَنْتَقِلُونَ مِنَ
الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَلَاعَبُ الْمُتَكَلِّمُ
بِضَمِيرِهِ ، فَتَارَةً يَجْعَلُهُ تاء عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ ،
وَتَارَةً يَجْعَلُهُ كافا فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ مُخَاطَبًا ، وَتَارَةً يَجْعَلُهُ
هَاءً فَيُقِيمُ نَفْسَهُ مَقَامَ الْغَائِبِ . فَلِذَلِكَ كَانَ الْكَلَامُ
الْمُتَوَالِي فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ لَا يُسْتَطَابُ ،
وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِانْتِقَالُ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ " .
ثم ذكر الزركشي رحمه الله أقسام هذا اللون ، وفوائده البلاغية .
ينظر: "البرهان في علوم القرآن" لبدر الدين الزركشي (3/ 314-330) .
راجع للفائدة جواب السؤال رقم : (1356) .
والله تعالى أعلم .