الإجابة
الحمد لله
أولا :
الجنة التي أسكنها الله تعالى آدم عليه السلام ، كما في قوله تعالى : ( وَقُلْنَا
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) البقرة/ 35 ، هي جنة الخلد ،
التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة برحمة الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الْجَنَّةُ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ ، عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ
وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ " انتهى من " مجموع
الفتاوى " (4 /347) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الصواب أن الجنة التي أسكنها الله- تعالى - آدم وزوجه هي الجنة التي وعد المتقون
؛ لأن الله - تعالى - يقول لآدم : ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) ،
والجنة عند الإطلاق هي جنة الخلد التي في السماء " .
انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين " (2 /51) .
ومن الأدلة على ذلك ما يلي :
- قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا
آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ
شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) البقرة/ 34 - 36 ، فقوله : ( وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) بعد قوله : (اهْبِطُوا) دليل على
أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا أهبطوا
إلَى الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَانْتَقَلُوا إلَى
أَرْضٍ أُخْرَى ، كَانْتِقَالِ قَوْمِ مُوسَى مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ : لَكَانَ
مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَتَاعُهُمْ إلَى حِينٍ فِي الْأَرْضِ ، قَبْلَ الْهُبُوطِ
وَبَعْدَهُ " .
انتهى من " مجموع الفتاوى" (4 /347) .
- وصف سبحانه جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد ، فقال : ( إِنَّ لَكَ أَلَّا
تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ) طه/
118، 119 ؛ وهذا لا يكون في الدنيا أصلا .
- روى مسلم (195) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وعَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَا: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَجْمَعُ اللهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى النَّاسَ ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ
، فَيَأْتُونَ آدَمَ ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا ، اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ
، فَيَقُولُ : وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ
آدَمَ ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ
اللهِ ... )
وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها ، هي بعينها التي يُطلب منه أن يستفتحها،
وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا .
- جاءت الجنة معرّفة بلام التعريف في جميع المواضع ، ولا جنة يعهدها المخاطبون
ويعرفونها إلا جنة الخلد ؛ فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة ، كالمدينة والبيت
والكتاب ونظائرها ، فحيث ورد لفظها معرفا : انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في
قلوب المؤمنين ، وأما إن أريد به جنة غيرها ، فإنها تجيء منكَّرة أو مقيدة .
وينظر للاستزادة :
" مجموع الفتاوى " (4/347-349) ، " حادي الأرواح " (ص19-25) .
ثانيا :
أما ما رواه البخاري (3244) ، ومسلم (2824) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ
اللَّهُ ( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلاَ
أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ :
( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) " .
فمعناه : أن في الجنة من النعيم ما لم تره عين ، ولا سمعت به أذن ، ولا خطر على قلب
بشر ، ولا ينفي ذلك أن يكون فيها ما رأته عين .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" اعْلَم أَن الله عز وَجل وعد الصَّالِحين من جنس مَا يعرفونه من مطعم ومشرب وملبس
ومنكح وَغير ذَلِك ، ثمَّ زادهم من فَضله مَا لَا يعرفونه فَقَالَ: ( مَا لَا عين
رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت ولَا خطر على قلب بشر ) " .
انتهى من " كشف المشكل " (3/ 433) .
وروى أبو داود (4744) عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ : اذْهَبْ فَانْظُرْ
إِلَيْهَا ، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ
وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا ... ) الحديث .
وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال العراقي رحمه الله :
" فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَطْلَعَ
جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ فِيهَا، فَقَدْ
رَأَتْهُ عَيْنٌ ؟!
قُلْت : الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ :
أَحَدِهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أُمُورًا كَثِيرَةً لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا جِبْرِيلُ وَلَا
غَيْرُهُ ، فَتِلْكَ الْأُمُورُ هِيَ الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ .
ثَانِيهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْيُنِ وَالْآذَانِ : أَعْيُنُ الْبَشَرِ
وَآذَانُهَا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ( وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) ؛ فَأَمَّا
الْمَلَائِكَةُ : فَلَا مَانِعَ مِنْ اطِّلَاعِ بَعْضِهِمْ عَلَى ذَلِكَ .
ثَالِثُهَا : أَنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ " .
انتهى من " طرح التثريب " (8/ 274) ، وينظر: " فيض القدير" للمناوي (2/ 467) .
والله أعلم .