الإجابة
الحمد لله
أولا :
الشخصيات التاريخية التي ذكرت في القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة نقطع
بوجودها وصحة ما نسبه إليها القرآن أو السنة من مواقف وأفعال وأقوال .
ولا سبيل إلى إثبات وجود تلك الشخصيات وما نسب إليها من مواقف إلا من خلال القرآن
الكريم والسنة النبوية ؛ لأن الأمم السابقة ليس لها إسناد متصل إلى أنبيائها ولا
إلى تلك الشخصيات ، والإسناد المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو من خصائص هذه
الأمة وحدها .
وعلى هذا ، فنقف في أمر تلك الشخصيات على ما ذكره القرآن والسنة ، ولا نتجاوز ذلك ؛ لأنه لا دليل صحيح يدل على شيء ينسب إلى تلك الشخصيات إلا ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقط . وليس في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية أية إشارة إلى أن السامري هو المسيح الدجال ، ولذلك لم نجد أحدا من العلماء - فيما رجعنا إليه من الكتب – ذكر شيئا من ذلك ، وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم شك في أحد كهنة اليهود في المدينة ( ابن صائد ) شك في أمره ، هل هو المسيح الدجال أم لا ؟ وذلك في بداية الأمر ، حتى تبين للرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس المسيح الدجال ، وإنما هو دجال وكذاب من الدجاجلة .
ثانيا :
استدلال السائل على أن السامري هو الدجال بقوله : " قدرته على رؤية الملائكة وهو
ليس نبي " استدلال غير صحيح ؛ لأن رؤية الملائكة ممكنة لغير الأنبياء ؛ فقد روى
أحمد في مسنده (948) من حديث علي رضي الله عنه في قصة غزوة بدر وفيه : " ...
فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا فَقَالَ
الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي ، لَقَدْ
أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ
مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ . فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : أَنَا أَسَرْتُهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : ( اسْكُتْ ، فَقَدْ أَيَّدَكَ
اللَّهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ ) .
وروى أحمد ( 2547 ) عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ ،
فَكَانَ كَالْمُعْرِضِ عَنْ أَبِي ، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ لِي أَبِي :
أَيْ بُنَيَّ ، أَلَمْ تَرَ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي ؟! فَقُلْتُ
: يَا أَبَتِ ، إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ .
قَالَ : فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
أَبِي : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ : كَذَا وَكَذَا ،
فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ رَجُلٌ يُنَاجِيكَ ، فَهَلْ كَانَ عِنْدَكَ
أَحَدٌ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهَلْ رَأَيْتَهُ
يَا عَبْدَ اللَّهِ ؟ فقال : نَعَمْ .
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَإِنَّ ذَاكَ جِبْرِيلُ وَهُوَ الَّذِي شَغَلَنِي
عَنْكَ ) .
والحديث : صححه محققو المسند على شرط مسلم .
وقد رأى جمع من الصحابة جبريل عليه السلام لما جاء يعلمهم أمر دينهم كما في الحديث المشهور ، إلا أنه لا يمكن لغير الأنبياء أن يرى الملائكة على صورتها الحقيقية ؛ كما تقدم بيانه في إجابة السؤال رقم : (70364) .
ثالثا :
الاستدلال بأن السامري هو الدجال بأن موسى عليه السلام ألان له الكلام خشية أن يغضب
؛ لأن الدجال يخرج من غضبة يغضبها ، كما رواه مسلم (2932) ، هو استدلال غير صحيح
أيضاً ؛ لأنه يقال فيه : ما المانع أن يكون جدال موسى عليه السلام مع السامري بهذا
الهدوء لتظهر حجة الله البالغة ، وتعلو كلمة الله ، دون أن يكون هناك صخب أو شغب أو
سب أو ضرب ؟ فكلمه بهدوء ولطف ، وحرق إلهه ونسفه في اليم نسفا ، وقد تمت بذلك الحجة
، وظهر الحق ، وزهق الباطل .
ومع ذلك : لم يترك السامري
بلا عقوبة في الدنيا ، بل عوقب بأنه منع من أن يقترب منه الناس ، وأن يمسه أحد من
الناس ، فصار الناس يبتعدون عنه ، كما يبتعدون عن الجمل الأجرب .
قال الله تعالى : ( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا
مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي
ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ
نَسْفًا ) طه/ 97 .
قال ابن سعدي رحمه الله :
" ( فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ) أي : تعاقب في الحياة عقوبة ، لا يدنو منك
أحد ، ولا يمسك أحد ، حتى إن من أراد القرب منك ، قلت له : لا تمسني ، ولا تقرب مني
، عقوبة على ذلك ، حيث مس ما لم يمسه غيره ، وأجرى ما لم يجره أحد ، ( وإن لك موعدا
لن تخلفه ) فتجازى بعملك ، من خير وشر ، ( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا ) أي
: العجل ( لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ) ففعل موسى ذلك ، فلو كان إلها ،
لامتنع ممن يريده بأذى ويسعى له بالإتلاف ، وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل
، فأراد موسى عليه السلام إتلافه وهم ينظرون ، على وجه لا تمكن إعادته ، بالإحراق
والسحق وذريه في اليم ونسفه ، ليزول ما في قلوبهم من حبه ، كما زال شخصه ؛ ولأن في
إبقائه محنة ؛ لأن في النفوس أقوى داع إلى الباطل ، فلما تبين لهم بطلانه ، أخبرهم
بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له ، فقال : ( إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو
وسع كل شيء علما ) " انتهى .
" تفسير السعدي " (ص 512) .
والله أعلم .