الإجابة
الحمد لله
ينقل المفسرون عن جماعة من الصحابة والتابعين تفسيرهم هذه الحادثة بما ذكرته في
السؤال ، وهو أن السامري رأى فرس جبرائيل فتناول قبضة من أثر حافره ، فألقاها على
ما جمعه من ذهب بني إسرائيل فأصبح عجلا له خوار ، فذلك قوله تعالى : ( قَالَ فَمَا
خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ . قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ
قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي )
طه/94-95 .
وقد أورد المفسرون على هذا التوجيه إشكالات عدة ، سيتبين بعضها فيما يأتي من جواب
على إشكال السائل ، وهو كيف رأى السامري جبريل والمعلوم أن البشر لا يرون الملائكة
.
والجواب على ذلك يمكن من وجوه عدة :
الأول :
أن الله عز وجل هو الذي جعل السامري فتنة ، فأراه جبريل عليه السلام ليستكمل الحكمة
الإلهية في فتنة بني إسرائيل في هذا العجل الصنم ، ولا مانع من رؤية البشر للملائكة
، استثناء ، بتمكين من الله سبحانه وتعالى ، لحكمة يعلمها عز وجل ، فهو على كل شيء
قدير ، ورؤية الملائكة ليست من المحالات في نفسها ، بل هي من الممكنات بإرادة الله
سبحانه .
الثاني :
أن الآثار الواردة في تفسير الحادثة لا تتحدث عن رؤية السامري جبرائيل عليه السلام
، وإنما تتحدث عن رؤية أثر حافر فرسه ، وفرق ظاهر بين الأمرين ، إذ لا مانع أن يرى
فرسا ، ويرى عليه هيئة ملائكية لا يتمكن من تمييزها ومشاهدة صورتها وحقيقتها ،
وإنما يعلم أنه ملاك على فرس ، فيأخذ قبضة من أثر ذلك الفرس .
ولو تأملت معنا تفسير الصحابة والتابعين مرة أخرى أدركت هذا الفارق :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
" لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار ، وتكسرت ، ورأى
السامري أثر فرس جبرائيل عليه السلام ، فأخذ ترابا من أثر حافره ، ثم أقبل إلى
النار فقذفه فيها ، وقال : كن عجلا جسدا له خوار ، فكان للبلاء والفتنة " .
وعن مجاهد قال :
" من تحت حافر فرس جبرائيل ، نبذه السامريّ على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا
جسدا له خوار " .
وعن قتادة : ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) " يعني : فرس جبرائيل
عليه السلام ، وقوله : ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) يقول : قبضت
قبضة من أثر حافر فرس جبرائيل "
رواها الطبري بأسانيده في " جامع البيان " (18/362) ، ورواها غيره من المفسرين .
فكلها دلالتها واضحة أنه " رأي أثر فرس جبريل " ، وليس جبريل نفسه .
الثالث :
لماذا نفترض أن رؤية جبريل عليه السلام تمت على هيئته الحقيقية ، وليس على صورة
تشكل بها ، كما تشكل في صورة أعرابي جاء يسأل النبي محمدا صلى الله عليه وسلم عن
أركان الإسلام والإيمان ؛ أليس هذا هو الأقرب ؟! فصورة جبريل الحقيقية تسد الأفق ،
ولا يناسبها الركوب على الفرس ، بل الغالب أن هيئة الركوب لا تتم إلا في صورة غير
الصورة الملائكية الحقيقية ، ذلك أن جبريل له ستمائة جناح ، فلا حاجة للفرس معها .
الرابع :
نحا جماعة إلى إن تفسير الآية : ليس هو على هذا الوجه المروي ، عمن روي عنه من
السلف ؛ فلم ير أحد جبريل عليه السلام ، ولم يأخذ السامري قبضة من أثر فرسه ، وما
يروى في هذا الشأن : لم يسلموا به .
يقول أبو مسلم الأصفهاني المعتزلي (322هـ) :
" ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، فههنا وجه آخر ، وهو أن يكون
المراد بالرسول موسى عليه السلام ، وبأثره : سنته ورسمه الذي أمر به . فقد يقول
الرجل : فلان يقفو أثر فلان ، ويقبض أثره : إذا كان يمتثل رسمه .
والتقدير : أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر
الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال : بصرت بما لم يبصروا به ، أي عرفت
أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ، أي شيئا من
سنتك ودينك ، فقذفته أي طرحته . فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب
في الدنيا والآخرة .
وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول
الأمير في كذا وبماذا يأمر الأمير ، وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا ، مع جحده
وكفره فعلى مثل مذهب من حكى الله عنه قوله : ( يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك
لمجنون ) [الحجر: 6] وإن لم يؤمنوا بالإنزال " انتهى من " تفسير أبي مسلم الأصفهاني
" (ص/191-192) .
ومع ما في بعض وجوه هذا التأويل من التكلف والنظر الظاهر ، فقد انتصر له الرازي في
تفسيره " مفاتيح الغيب " (22/95-96) بشدة ، ورجح هذا القول أيضا من المتأخرين
العلامة القاسمي في " محاسن التأويل " (7/144) حيث وصف قول الجمهور بأنه " ليس عليه
أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم " انتهى .
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" هذا الذي ذكروه [ يعني ما ذهب إليه جمهور المفسرين من رؤية السامري فرس جبريل ]
لا يوجد في كتب الإسرائيليين ، ولا ورد به أثر من السنة ، وإنما هي أقوال لبعض
السلف ، ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين .
فإذا صرفت هذه الكلمات الست إلى معان مجازية كان :
( بصرت ) بمعنى علمت واهتديت ، أي اهتديت إلى علم ما لم يعلموه ، وهو علم صناعة
التماثيل والصور الذي به صنع العجل ، وعلم الحيل الذي أوجد به خوار العجل .
وكانت ( القبضة ) بمعنى النصيب القليل .
وكان ( الأثر ) بمعنى التعليم ، أي الشريعة .
وكان ( نبذت ) بمعنى : أهملت ونقضت .
أي : كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة ، فانخلعت عنها بالكفر .
وبذلك يصح أن يحمل لفظ ( الرسول ) على المعنى الشائع المتعارف ، وهو من أوحي إليه
بشرع من الله وأمر بتبليغه .
وكان المعنى : إني بعملي العجل للعبادة ، نقضت اتباع شريعة موسى . والمعنى : أنه
اعترف أمام موسى بصنعه العجل ، واعترف بأنه جهل ، فَضَلَّ ، واعتذر بأن ذلك سولته
له نفسه .
وعلى هذا المعنى فسر أبو مسلم الأصفهاني ، ورجحه الزمخشري بتقديمه في الذكر على
تفسير الجمهور ، واختاره الفخر " انتهى من " التحرير والتنوير " (16/ 296) .
وقد توسع العلامة الألوسي رحمه الله في تفسيره " روح المعاني " (8/564-565) ، في
الجواب عن حجج أبي مسلم الأصفهاني ، ومن بعده الرازي ، على ما ذهبوا إليه .
ودعا أبو منصور الماتريدي إلى السكوت عما سكت القرآن عنه ، من غير زيادة ولا نقصان
في تفسير تلك الحادثة .
ينظر: " تأويلات أهل السنة " ، للماتريدي (7/304) .
وعلى كل حال ، لسنا بصدد الترجيح بين الأوجه السابقة ، بقدر ما نقصد إلى بيان تعدد
الإجابات على إشكال السائل ، ويبقى الترجيح في المسألة محتملا ؛ إذ لم يرد فيها نص
عن النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام .
وأخيرا ، فإننا لم نجد أحدا من العلماء ، ولا في شيء من الروايات ما يشير إلى أن
السامري هو المسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان ، اللهم إلا إشارة عند الزركشي
في " البرهان في علوم القرآن " (2/140) ينقل فيها عن أحد العلماء فيقول : " وقع
سؤال بين جماعة من الفضلاء في أنه : ما الحكمة أنه لم يذكر الدجال في القرآن .
وتلمحوا في ذلك حِكَمًا ، ثم رأيت هذا الإمام قال : إن في القرآن تعريضا بقصته ، في
قصة السامري ، وقوله سبحانه : ( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ) طه/97 "
انتهى .
ولكنه توجيه عار عن الصحة ، لا يقوم على أساس صحيح ، ولا توجيه مقبول ، فحكاية
السامري تختلف اختلافا كليا عن المسيح الدجال ، ولا حاجة للربط بينهما من غير دليل
. والآية الكريمة في تأجيل السامري إلى موعد لن يخلفه : المقصود بها يوم القيامة ،
فهو الموعد الذي ينتظره جميع الخلائق .
يقول ابن كثير رحمه الله :
" ( وإن لك موعدا ) أي : يوم القيامة . ( لن تخلفه ) أي : لا محيد لك عنه " .
انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (5/314) .
والله أعلم .