الفتاوى

( اقرأ باسم ربك ) أمر بالقراءة من المحفوظ وليس من المكتوب
منذ أيام سألني أحد الأصدقاء من غير المسلمين عن أول لقاء بين جبريل عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : لماذا طلب جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بدلاً من أن يقول له " قل " ، كما جرت العادة في كثير من الآيات ، فجبريل عليه السلام لم يعطِ النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً ولا مخطوطة .. فماذا يقرأ إذاً . فاحترت لإجابة هذا السؤال ، ولم أدر ما أقول ، لذا نقلت إليكم سؤاله حتى تجيبوا عنه ؟

الإجابة


الحمد لله
واضح من مثل هذا السؤال أن سبب وروده قلة العلم باللغة العربية التي نزل بها القرآن ، وعدم الاطلاع على استعمالات العرب للكلمات والسياقات التي ترد بها ، فليس في السؤال إشكال حقيقي ، وإنما يتبين جوابه بسهولة للسائل إذا عرف معنى كلمة ( اقرأ ) في اللغة العربية .
فهذه الكلمة تستعمل بمعنيين :
الأول : القراءة من المكتوب ، وهو المعنى المتبادر لدى الناس ، ومنه قول الله تعالى : ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) الإسراء/14 .

الثاني : القراءة عن ظهر قلب ( من المحفوظ في الذاكرة ) ، بمعنى التلاوة المجردة عن النظر في شيء مكتوب ، ومن ذلك قول الله عز وجل : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة/17-18 ، ومعلوم أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من غير كتاب . ومنه أيضا قول الله عز وجل : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) النحل/98 ، وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) الإسراء/45 . وكذلك قوله تعالى : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ) الإسراء/106. وهي كلها تصف تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم آيات الكتاب الكريم بأنها ( قراءة ) ، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان أميا ، لا يقرأ من الكتب ، وإنما يقرأ من محفوظه الذي جمعه الله له في قلبه .

وهكذا ينبغي أن نفهم قول الله عز وجل : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) العلق/1-3 . على أنه أمر بالقراءة من المحفوظ ، وتلاوة ما سيلقيه عليه جبريل عليه السلام . فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( ما أنا بقارئ ) أي لا أعرف القراءة من الكتاب ، فكيف لي أن أقرأ شيئا لا أحفظه ولا أعرفه .

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله :
" القراءة لغة الإظهار والإبراز ، كما قيل في وصف الناقة : لم تقرأ جنينا ، أي لم تُنتِج . وتقدم للشيخ بيان هذا المعنى لغة ، وتوجيه الأمر بالقراءة إلى نبي أمي لا تعارض فيه ; لأن القراءة تكون من مكتوب وتكون من متلو ، وهنا من متلو ، يتلوه عليه جبريل عليه السلام ، وهذا إبراز للمعجزة أكثر ; لأن الأمي بالأمس صار معلَّمًا اليوم . وقد أشار السياق إلى نوعي القراءة هذين ، حيث جمع القراءة مع التعليم بالقلم " انتهى من " تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " (9/13) .

ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" قوله تعالى : ( اقرأ ) أمر بالقراءة . والقراءة نطق بكلام معين مكتوب ، أو محفوظ على ظهر قلب .
والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال ، فالمطلوب بقوله : ( اقرأ ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال ، أي أن يقول ما سيُملَى عليه ، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ، ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها ، فهو كما يقول المعلِّمُ للتلميذ : اكتب ، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه .
وفي حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه : ( حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى ما لم يعلم ) فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها ( قال : فقلت : ما أنا بقارئ ) وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة ، وقد قالت فيه : ( فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده )، أي : فرجع بالآيات التي أمليت عليه . أي : رجع متلبسا بها ، أي : بوعيها . وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى ما أوحي إليه ، وقرأه حينئذ . ويزيد ذلك إيضاحا قولها في الحديث : ( فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة : يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك )، أي : اسمع القول الذي أوحي إليه . وهذا ينبىء بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما قيل له بعد الغطة الثالثة : ( اقرأ باسم ربك ) الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذ كما أمره الله ، ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها .
وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في المرات الثلاث : ( اقرأ ) إعادة للفظ المنزل من الله ، إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل .
ولم يذكر لفعل ( اقرأ ) مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم ، وأن المقصود : أوجِد القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن " انتهى من " التحرير والتنوير (30/435) .

والخلاصة : أن الأمر بالقراءة في هذه الآية ( اقرأ باسم ربك ) ليس من صحيفة مكتوبة ، بل من محفوظ خاص تعلمه ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي ، لم يحفظ شيئا من كتاب قرأه قبل ذلك ، فألقى عليه جبريل أوائل سورة العلق ليقرأها ؛ أي : ليحفظها ويتلوها بعد ذلك .

والله أعلم .

Icon