الإجابة
الحمد لله
أولا :
تقدم في إجابة السؤال رقم (103304) أن أهل العلم قد اختلفوا في قصة الغرانيق بين
مثبت لها ورادّ ، وأن الأقرب ثبوتها من حيث الأصل ، وقد صحت عن جماعة من السلف من
قولهم ، وهي في الحقيقة لا تخالف أصلا من أصول الدين أو شيئا من مهماته ، ولا يعدو
الأمر أن يكون قد جرى شيء بتقدير الله العزيز الحكيم ليبتلي الناس ثم أبطله الله .
ولعل الراجح أن يكون ذلك الذي سمعوه مما ألقاه الشيطان على مسامعهم ، ولم ينطق به
الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد رجح ذلك غير واحد من أهل العلم ، انظر " فتح
الباري " (8/440)
ثانيا :
ملخص ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في باب عصمة الأنبياء :
- أنهم معصومون في التبليغ والرسالة والإخبار عن الله ، لا يجوز عليهم الخطأ في ذلك
.
قال رحمه الله :
" الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ
بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ بِاتِّفَاقِ
الْأُمَّةِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10 /289) .
- أنهم معصومون عن الكبائر دون الصغائر ، فيجوز أن تقع منهم الصغائر ، ولكن لا
يقرون عليها ولا يستمرون فيها ، وإنما يوفقون إلى التوبة والإنابة إلى الله .
قال رحمه الله :
" الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ دُونَ
الصَّغَائِرِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَجَمِيعِ الطَّوَائِفِ
، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ
، بَلْ هُوَ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَالصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ .
وَعَامَّةُ مَا يُنْقَلُ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهُمْ غَيْرُ
مَعْصُومِينَ عَنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ ، وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا ،
وَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا لَا تَقَعُ بِحَالِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 /319)
.
وقال :
" وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآثَارِ
الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ إثْبَاتُ الْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى
الذُّنُوبِ مُطْلَقًا ... " إلى أن قال :
" فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللَّهُ يَرْفَعُ بِهَا صَاحِبَهَا
إلَى أَعْظَمِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كَانَ
دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ
، وَقَالَ آخَرُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا
اُبْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ " انتهى من "مجموع الفتاوى"
(10 /293)
وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" (4/ 119):
" وَحَاصِلُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ
الْكُفْرِ ، وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ
وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَتَطْفِيفِ حَبَّةٍ ، وَأَنَّ
أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ ، غَيْرَ صَغَائِرِ
الْخِسَّةِ ، مِنْهُمْ ...
والَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مَا
يُزْرِي بِمَرَاتِبِهِمُ الْعَلِيَّةِ ، وَمَنَاصِبِهِمُ السَّامِيَةِ ، وَلَا
يَسْتَوْجِبُ حطّا مِنْهُمْ ، وَلَا نَقْصًا فِيهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الذُّنُوبِ ،
لِأَنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ ، وَالْإِخْلَاصِ ،
وَصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ ، حَتَّى يَنَالُوا بِذَلِكَ أَعْلَى
دَرَجَاتِهِمْ فَتَكُونُ بِذَلِكَ دَرَجَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ
يَرْتَكِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ " انتهى .
وقال علماء اللجنة :
" الأنبياء والرسل قد يخطئون، ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم ، بل يبين لهم
خطأهم ؛ رحمة بهم وبأممهم ، ويعفو عن زلتهم ، ويقبل توبتهم ؛ فضلا منه ورحمة ،
والله غفور رحيم " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (3 /264) .
فتبين بذلك أن القول بجواز وقوع الصغيرة التي لا تزري بمنصب صاحبها ، من الأنبياء ، ليس هو قول شيخ الإسلام وحده ، إنما هو قول جمهور أهل العلم ، ولكن لا يُقر النبي على الخطأ ولا يستمر على فعله ، وإنما يوفق إلى التوبة النصوح ، وهذا لا مطعن فيه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام – والعياذ بالله – لأن حال التائب الصادق من عموم الناس بعد الذنب ، قد يكون أحسن من حاله قبل الذنب ، فكيف بأنبياء الله ورسله ؟
ثالثا :
الذي رجحه شيخ الإسلام ونص عليه : أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الغرانيق قد
جرى على لسانه هذا الكلام ، حتى سمعه منه المشركون ، ثم نسخه الله وأبطله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَمَا جَرَى فِي سُورَةِ " النَّجْمِ " مِنْ قَوْلِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ
الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ
وَأَبْطَلَهُ " انتهى .
"منهاج السنة النبوية" (2/ 409) .
وقال أيضا :
" وتنازعوا هل يجوز أن يسبق على لسانه ما يستدركه الله تعالى ويبينه له ، بحيث لا
يقره على الخطأ ، كما نقل أنه ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم تلك الغرانيق
العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، ثم إن الله تعالى نسخ ما ألقاه الشيطان وأحكم آياته :
فمنهم من لم يجوز ذلك ، ومنهم من جوزه ، إذ لا محذور فيه ؛ فإن الله تعالى ينسخ ما
يلقى الشيطان ويحكم الله آياته والله عليم حكيم " انتهى من "منهاج السنة النبوية"
(1 /338) .
وقال بعد أن حكى الخلاف في القصة :
" ومن جوز ذلك قال : إذا حصل البيان ونسخ ما ألقى الشيطان لم يكن في ذلك محذور ،
وكان ذلك دليلا على صدقه وأمانته وديانته ، وأنه غير متبع هواه ، ولا مصر على غير
الحق ، كفعل طالب الرياسة المصر على خطئه ، وإذا كان نسخُ ما جُزم بأن الله أنزله
لا محذور فيه ، فنسخ مثل هذا أولى أن لا يكون فيه محذور " انتهى من "الجواب الصحيح"
(2 /36) .
رابعا :
المراسيل عند شيخ الإسلام ابن تيمية إذا تعددت طرقها : كانت صحيحة ، إذا خلت عن
المواطأة قصدا أو اتفاقا، وذلك بأن يكون كل واحد ممن أرسل الحديث أخذ العلم عن غير
شيوخ الآخر.
قال رحمه الله :
" و " الْمَرَاسِيلُ " إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ
قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعًا " انتهى من
"مجموع الفتاوى" (13 /347) .
وقال أيضا :
"وأما أسباب النزول ، فغالبها مرسل ، ليس بمسند ، لهذا قال الإمام أحمد : ثلاث علوم
لا إسناد لها ، وفي لفظ : ليس لها أصل : التفسير ، والمغازي ، والملاحم ، يعني أن
أحاديثها مرسلة، ليست مسندة .
والمراسيل قد تنازع الناس في قَبولها وردها، وأصح الأقوال : أن منها المقبول ،
ومنها المردود ... وإن جاء المرسَل من وجهين ، كل من الراويين أخذ العلم عن غير
شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه ؛ فإن مثل ذلك لا يُتصور في العادة تماثل الخطأ فيه
، وتعمد الكذب ... ".
انتهى من "منهاج السنة النبوية" (7 /316) .
وهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله ، انظر "مقدمة ابن الصلاح" (ص33) .
ولا يجوز أن يُتخذ من شيء من ذلك ذريعة للوقوع في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
أو التنقص من قدره ، فالذي ذهب إليه سواء في قصة الغرانيق أو في مسألة العصمة لم
ينفرد به ، وإنما هو متبع فيه لكثير من أئمة السلف والخلف .
وهذه من مسائل الاجتهاد ، ولا يجوز فيها الطعن على المخالف .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" اَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ – يعني الأنبياء - الصَّغَائِرُ
وَالْخَطَأُ وَلَا يُقَرُّونَ علَى ذَلِكَ لَمْ يُكَفَّرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ
مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ كَفَرَ هَؤُلَاءِ لَزِمَ
تَكْفِيرُ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَالْحَنَفِيَّةِ ،
وَالْحَنْبَلِيَّةِ ، وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالتَّفْسِيرِ ،
وَالصُّوفِيَّةِ : الَّذِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ
أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِذَلِك ... وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرَهَا
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ، وَأَبُو الطَّيِّبِ الطبري
، وَالشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيّ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا بَقِيَّةُ
طَوَائِفِ أَهْلِ الْعِلْمِ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ،
وَأَحْمَد ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى
هَذَا الْقَوْلِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (35 /100-101) .
خامسا :
قول الإمام أحمد رحمه الله " ثلاثة كتب ليس لها أصول المغازي ، والملاحم ، والتفسير
" محمول على أن الغالب منها لا يصح ، أو يحمل ذلك على كتب مخصوصة غير معتمدة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ :
التَّفْسِيرُ ، وَالْمَلَاحِمُ ، وَالْمَغَازِي ، وَيُرْوَى : لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ
، أَيْ إسْنَادٌ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ " انتهى من "مجموع
الفتاوى " (13 /346) .
وقال الزركشي رحمه الله :
" ومراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة " انتهى من "البرهان في علوم
القرآن" (2 /156) .
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله :
" وهذا الكلام محمول على وجه وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة ،
غير معتمد عليها ، ولا موثوق بصحتها لسوء أحوال مصنفيها ، وعدم عدالة ناقليها ،
وزيادات القصاص فيها " انتهى من "الجامع" (2 /162) .
راجع لمزيد الفائدة والبيان إجابة السؤال رقم (7208) .
تنبيه :
الكتاب المذكور في السؤال : لم يتم الوقوف عليه أو النظر فيه من الموقع ، إنما نحن
عمدتنا في النقاش على أصل المسألة التي أوردها السائل ، دون النظر في حال الكتاب ،
وما يستحقه من الكلام عليه .
والله أعلم .