الإجابة
الحمد لله
أولاً:
كان زيد بن حارثة رضي الله عنه في أول أمر الإسلام ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم
بالتبنِّي ، وكان يُدعى " زيد بن محمد " ، وقد زوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم من
ابنة عمته " زينب بنت جحش " رضي الله عنها ، فلمَّا أبطل الله تعالى التبنِّي نُسب
زيدٌ لأبيه " حارثة " .
ثم إن " زيداً " رضي الله عنه اشتكى لنبينا صلى الله عليه وسلم من زوجته " زينب " ،
والنبي صلى الله عليه وسلم يصبِّره ويذكره بتقوى الله تعالى ، وبعد ذلك الإبطال
للتبني يوحي الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق زوجته وأنها
ستكون زوجة له ، فأخفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر – وهو تزوجه بزينب
مستقبلاً – عن الناس ولم يبده لأحد ، ولم يكن وحياً مأموراً بتبليغه ، وإنما خبر
سيتحقق ، وقد حصل فعلاً أن طلق زيد زوجته زينب ، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم
.
فليس في قصة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب ما يقدح في مقامه ، ولا ما ينزل
من قدره.
وما يذكره بعض المفسرين في ذلك من أقوال تخالف ما ذكرناه فكله ضعيف مردود .
قال القرطبي رحمه الله :
قال ابن العربي : فإن قيل : لأي معنى قال له : (أمسك عليك زوجك) وقد أخبره الله
أنها زوجُه ؟
قلنا : أراد أن يختبر منه رغبته فيها أو رغبته عنها ، فأبدى له " زيد " من النفرة
عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها .
فإن قيل : كيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه ، وهذا تناقض ؟! .
قلنا : بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة ، ألا ترى أن الله
تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن ، فليس في مخالفة متعلق الأمر
لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلاً وحُكماً ، وهذا من نفيس العلم فتيقنوه ،
وتقبلوه .
" تفسير القرطبي " ( 14 / 190 ) .
ولتفصيل أوفى للقصة ، وللوقوف على أقوال العلماء فيها : انظر جواب السؤال رقم (96464)
.
ثانياً :
أما جواب السؤال الأول وهو " إذا كان الله يعلم أن زواج زيد بزينب لن يستمر إلا سنة
واحدة ثم يتزوجها محمد صلى الله عليه وسلم : فلماذا لم يأمره بالزواج بها ابتداءً ؟
" :
فيجاب عن ذلك أولاً : بأنه لا يجوز للإنسان أن يقترح على الله تعالى ماذا يفعل ؟
ولا أن يعترض على فعله ، وذلك لكمال علم الله تعالى وحكمته وقدرته ، فلا يفعل إلا
ما فيه الحكمة والمصلحة ، التي كثيراً ما تغيب عن الإنسان ولا يعلمها : قال الله
تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء/23 .
ثم .. أمْرُ الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم بتزوج زينب بعد طلاق زيد لها فيه
حكمة عظيمة ، وهي تقرير إبطال التبني تقريراً عملياً من الرسول صلى الله عليه وسلم
، حتى يعلم الجميع أن الابن من التبني ليس له أحكام الابن من الصلب ، فزوجة الابن
من التبني حلال لمن تبناه ، وهذه الحكمة تفوت لو أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج
زينب ابتداءً .
والتطبيق العملي للأحكام الشرعية يختلف في قوته وأثره عن الواقع النظري ، وخاصة
فيما يتعلق بأمرٍ مشتهر في الجاهلية ويُراد القضاء عليه .
ومن أمثلة ذلك :
إفطار النبي صلى الله عليه وسلم في السفر لما شق الصيام على الصحابة ، ولم يكتف
بأمرهم بالإفطار .
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي
رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ " كُرَاعَ الْغَمِيمِ " فَصَامَ النَّاسُ ، فقيل
له : إن الناس قد شق عليهم الصيام ، وإنما ينظرون فيما فعلت فدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ
مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ : إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ : (أُولَئِكَ الْعُصَاةُ
أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) رواه مسلم (1114) .
وانظر جواب السؤال رقم ( 12656 ) .
وفي ذلك يقول تعالى : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ
إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) الأحزاب/ 37
.
قال ابن كثير رحمه الله :
وقوله : ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ
أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ) أي : إنما أبحنا لك تزويجها
وفعلنا ذلك : لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء [أي : الأبناء
من التبني] ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن
حارثة ، فكان يقال له : " زيد بن محمد " ، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى :
(وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) ، ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى
الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة ؛ ولهذا قال في آية التحريم :
( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم ) النساء/ 23 ؛ ليحترز من
الابن الدَّعِي ؛ فإن ذلك كان كثيراً فيهم .
وقوله : (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) أي : وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره
الله تعالى وحَتَّمه ، وهو كائن لا محالة ، كانت زينب في علم الله ستصير من أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى .
" تفسير ابن كثير " ( 6 / 426 ) .
وأوضح منه فيما نريده ما قاله الطاهر بن عاشور رحمه الله حيث قال :
وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة ، وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه
أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دَعِيِّه ، فلما أبطله الله بالقول إذ قال :
(وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكَمْ أَبْنَاءَكَم) الأحزاب/ 4 : أكَّد إبطاله بالفعل ؛
حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل : " إن ذاك وإن صار حلالاً فينبغي
التنزه عنه لأهل الكمال " ، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعيّ من
أفضل الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
والجمع بين اللام وكي : توكيد للتعليل ، كأنه يقول : ليست العلة غير ذلك .
" التحرير والتنوير " ( 22 / 39 ) .
فكيف لتلك الأحكام والفضائل أن تظهر لولا وقوع التبني فعليّاً من النبي صلى الله
عليه وسلم ، ثم تزويجه لابنه في التبني من ابنة عمته ، ثم تزوج النبي صلى الله عليه
وسلم منها بعد إبطال التبني؟
ثالثاً :
قول السائل " إذا لم يكن الله هو من أمر محمَّداً بالزواج بها فمن الذي أمره إذاً ؟
هل اختلق محمَّد هذه الآيات - آيات سورة الأحزاب - بنفسه ليخدم غرضه ؟! " : يدل على
أنه ليس بمسلم ، وأنه كذب في تعبئة بياناته أنه مسلم – عند إرسال سؤاله - ، لأن هذا
الكلام لا يمكن أن يصدر من مسلم أبداً .
وسنجيب عن هذا الكلام بياناً للحق ، وإقامة للحجة على المعاندين ، ولعل الله تعالى
أن يهديهم ، فإننا نحب الخير والهداية للحق للبشرية جميعاً .
فهذه الآيات لا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اختلقها ، بل هذا غاية
التزوير وقلب الحقائق ، بل هذه الآيات هي من أدلة نبوته وصدقه فيما يبلغ عن الله
تعالى ، وذلك لأن الآيات فيها عتاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم :
(وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) الأحزاب/37 .
فهو عتاب من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم أنه أخفى ما سيبديه ربه تعالى ، وأنه
خشي من المنافقين وأهل السوء أن يطعنوا فيه عندما يتزوج من مطلَّقة ابنه بالتبني !
فيأتي هذا السائل ويريد أن يقلب الحقائق .
قَالَ أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه : (لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ). رواه البخاري (6984) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) رواه مسلم (177) .
وزينب رضي الله عنها ليست غريبة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي ابنة عمته ، ولو
أراد التزوج بها – حتى من قبل تزوج زيد بها - لما كان هناك عائق يحول دون ذلك ، فأي
حاجة لاختلاق آية ينسبها لربه تعالى ليتزوج بها ؟!
رابعاً:
قول السائل " طالما أن الزواج بزوجة الابن المتبنَّى ليس حراماً فهل ينطبق هذا
الحكم على الابن من الصلب ؟ " : هو من باب التشكيك في الشرع ومحاولة النيل من
أحكامه ، فهو يعلم أن زوجة الابن من الصلب لم يقل أحد بجواز التزوج بها بعد وفاة
زوجها أو طلاقها منه ، وأنها تصير محرَّمة على والد الزوج بمجرد العقد إلى يوم
القيامة ، كما قال تعالى في سياق ذِكر المحرَّمات في النكاح : ( وَحَلائِلُ
أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم ) النساء/ 23 ، فهذا نصٌّ واضح صريح في
المسألة وهو تحريم زوجة الابن من الصلب ، وذاك نص صريح في جواز التزوج من زوجة
الابن الذي كان متبنَّى ، فأي حاجة لمثل ذلك القياس الفاسد ، فالابن من التبني ليس
ابناً في الحقيقة حتى يأخذ أحكام الابن .
وعلى كل حال : فعلى السائل أن يراجع نفسه ، ويتفكر بتعقل وتدبر وإنصاف ، ونحن على
يقين أنه إذا قرأ سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم الصحيحة ، فسوف يعلم صدق نبوته صلى
الله عليه وسلم ، وسيقوده ذلك إلى الإيمان به .
نسأل الله تعالى له الهداية .
والله أعلم