الإجابة
الحمد لله
في عمر نوح عليه السلام العظة والعبرة البالغة :
فهي قرون طويلة قضاها في قومه يدعوهم إلى الله تعالى ، يشفق عليهم من عذابه ، ويرجو
لهم رحمته ، ولم يصبه اليأس ولا أخذه القنوط ، بل رجا أن يهديهم الله على يديه وإن
طال الزمان، فكانت سنوات عمره دروسا للدعاة والمعلمين والمربين في الصبر والعزيمة
والإيمان.
كما أن فيها من العظة والعبرة لكل إنسان ، ليدرك أن الموت آت وإن طال الزمان ، وأن
العمر إنما هو أيام تتقضى مع غروب شمس كل يوم ، لتسدل الستار على قصة روحه التي
منحت فرصة نيل السعادة الأبدية في الجنة ، فيا فوزها إن كان سعيها في تحصيل هذه
السعادة ، ويا خسارها إن قصرت وفرطت .
روى ابن أبي الدنيا في "الزهد" (رقم/358) بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
جاء ملك الموت إلى نوح عليه السلام ، فقال : يا أطول النبيين عمرا ! كيف وجدت
الدنيا ولذتها ؟ قال : " كرجل دخل بيتا له بابان ، فقام في وسط البيت هنيهة –
القليل من الزمان - ، ثم خرج من الباب الآخر "
انتهى
.
والمسلم الحصيف هو الذي يلتفت إلى هذه المعاني والعبر ، فتبعث في نفسه العزيمة
وتحثها على العمل ، ولا ينبغي أن يشغل باله كثيرا بتفاصيل التاريخ التي لم يلتفت
إليها الوحي في بيانه ، ولم يثبت فيها شيء من أدلة الشريعة المعتمدة .
ومن ذلك السؤال عن تحديد عمر نوح عليه السلام ، فقد ورد فيه عدة أقوال لعلماء للسلف
من الصحابة والتابعين ، ولم يثبت فيه شيء من الكتاب والسنة الصريحة كي يجزم بأحد
هذه الأقوال ، ولكننا نسرد هذه الأقوال هنا من باب زيادة العلم بما تنقله كتب السلف
:
القول الأول : (950) سنة : وهو قول قتادة .
جاء في "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (6/268) :
" وقال قتادة : يقال إن عمره كله كان ألف سنة إلا خمسين عاما ، لبث فيهم قبل أن
يدعوهم ثلثمائة سنة ، ودعاهم ثلثمائة ، ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة "
انتهى
.
روى نحوه ابن أبي حاتم في "التفسير"
(رقم/18041)
القول الثاني : (1050) سنة : قاله ابن عباس .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
" بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة ، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى
الله ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا "
انتهى
.
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/455) لكل
من ابن أبي شيبة (7/18) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ
، والحاكم (9/251) ، وصححه وابن مردويه
.
القول الثالث : (1020) سنة : قول كعب الأحبار .
روى ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18043) حدثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد،
ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار،
في قول الله: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما " ، قال:"عاش بعد ذلك سبعين
عاما".
القول الرابع: (1400) سنة : يحكى عن ابن عباس ، وهو قول وهب بن منبه :
انظر "تفسير القرطبي" (13/332)
القول الخامس : (1650) سنة : قول عون بن أبي شداد .
عن عون بن أبي شداد ، قال :
" إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مائة سنة ، فدعاهم
ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة "
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18044)
والطبري في "جامع البيان" (20/17)
القول السادس : (1700) سنة ، قول عكرمة .
عن عكرمة رضي الله عنه قال :
" كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعدما بعث ألفا وسبعمائة سنة "
انتهى
.
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/456)
لعبد بن حميد
قال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (6/268) بعد أن استغرب الأقوال السابقة :
" وقول ابن عباس أقرب " انتهى
.
ثانيا :
اختلف المفسرون أيضا في الحكمة من استعمال لفظي " السنة " و " العام " ، على قولين
:
القول الأول : ذهب بعض المفسرين إلى أنها حكمة لفظية فحسب ، لأن تكرار اللفظ نفسه
فيه ثقل على اللسان ، فجاء بلفظ مرادف مغاير ، وهو " عاما " لتحقيق الخفة المطلوبة
.
يقول الزمخشري في "الكشاف" :
" فإن قلت : فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام ؟ قلت : لأنّ تكرير اللفظ
الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض
ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك "
انتهى
.
وبنحوه في "التحرير والتنوير" (20/146)
القول الثاني : أن استعمال لفظ " السنة " جاء للدلالة على صعوبة السنوات التي قضاها
نوح عليه السلام في دعوة قومه ، فهي سنوات عجاف من حيث الخير والمطر والبركة ، ومن
حيث مشقتها أيضا على نوح عليه السلام في أمر الدعوة ، حيث واجهه قومه بالإعراض
والأذى ، ثم عاش بعد الطوفان وهلاك الكفر من الأرض أعواما من الخصب والنعيم والرخاء
، والعرب تطلق لفظ " السنة " على أيام الجدب والقحط ، و لفظ " العام " على أيام
الرخاء والنعيم .
يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (2/140) :
" العام كالسنة ، لكن كثيرا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب
؛ ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة ، والعام بما فيه الرخاء والخصب ، قال : ( عام فيه
يغاث الناس وفيه يعصرون ) يوسف/49
، وقوله : ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما )
العنكبوت/14
، ففي كون المستثنى منه بالسنة والمستثنى بالعام لطيفة .
وقال برهان الدين البقاعي "نظم الدرر" (14/404) :
" وعبر بفلظ " سنة " ذما لأيام الكفر ... وقال : " عاما " إشارة إلى أن زمان حياته
عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغدا واسعا حسنا بإيمان المؤمنين ، وخصب الأرض
" انتهى
.
ونحوه توجيه الإمام الزركشي في "البرهان في
علوم القرآن" (3/386)
وجمع بعض أهل العلم بين هذين القولين ، إذ لا مانع من اعتبار الحكمتين من هذه
المغايرة : اللفظية والمعنوية ، وأقوال المفسرين - إن لم تتعارض - فالأخذ بها
جميعها أولى من اطراح بعضها :
يقول ابن عادل في "اللباب" (12/429) :
" وقد روعيت هنا نكتة لطيفة ، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول
" سنة " وفي الثاني " عاماً " ، لئلا يثقل اللفظ ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين
إيذاناً بأن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسن ، فالعرب
تعبر عن الخَصْب بالعام ، وعن الجَدْب بالسنة "
انتهى
.
وانظر جواب السؤال رقم (10470)
، (10551)
والله أعلم .