الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنعتذر عن الاطلاع عن المقطع، والتعقيب عليه، فليس هذا من شأن مركز الفتوى، لكن نوصيك بوصية نافعة، ألا وهي: تلقي الدين عن المعروفين بالعلم والتقى، والمحاذرة من الاستماع للأغمار الجهال الذين يخوضون في دين الله بأهوائهم بغير علم، مثل صاحب هذا المقطع، وينبغي للمؤمن أن ينأى بنفسه عن سماع الشبهات، فإن القلوب ضعيفة، فرب شبهة يسمعها الرجل توجب هلاكه، وقد كان أئمة السلف - مع سعة علمهم - يعرضون عن سماع الشبهات، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال: كنت عند ابن طاووس، وعنده ابن له إذ أتاه رجل يقال له صالح يتكلم في القدر، فتكلم بشيء، فتنبه، فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أدخل أصابعك في أذنيك واشدد، فلا تسمع من قوله شيئًا، فإن القلب ضعيف. اهـ.
وقال الإمام الذهبي: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. اهـ.
وبالنسبة للنقاط التي ذكرتها في السؤال: فنجيبك عنها أجوبة مجملة، ونحيلك إلى فتاوى سابقة تكلمنا فيها بشيء من الإسهاب، أما أمية النبي صلى الله عليه وسلم: فقد تكلمنا عنها في الفتويين رقم: 28870، ورقم: 78544، فراجعهما.
لكن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب القرآن كله بيده فهو إفك مبين، ولم يقل به أحد، ومن المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر جمعًا من الصحابة بكتابة الوحي، وهم من يُعرفون بكتاب الوحي ـ رضي الله عنهم ـ ومقتضى كلام هذا المتهوك أن القرآن العظيم لا يكون محفوظًا إلا إذا كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويلزم من قوله أن القرآن لم يصلنا كما أنزل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنه كتب القرآن كله بيده، وليُعلم أن الدفاع عن الشرع بمثل هذه الأجوبة الواهية لا يفيد، فهي ليست للحق ناصرة، ولا للباطل كاسرة، بل هذه الأجوبة المختلقة الواهية تقوي أهل الباطل، وتفتح لهم الأبواب المرتجة.
وأما جمع القرآن العظيم: فلم يأت دليل على جمع القرآن في مصحف واحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كتب القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن مفرقًا في الصحف، وراجع تفصيل هذا في الفتاوى التالية أرقامها: 191189، 104843، 17828.
وأما كلامه عن قصة نزول الوحي: فقد جاء في رواية مرسلة لا تصح أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب، وليس في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ من الكتاب، ولا أن الكتاب من اللوح المحفوظ، قال ابن حجر: قوله: اقرأ ـ يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه، والتيقظ لما سيلقى إليه، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب، ويحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة، أي قل: اقرأ، وإن كان الجواب: ما أنا بقارئ، فعلى ما فهم من ظاهر اللفظ، وكأن السر في حذفها؛ لئلا يتوهم أن لفظ قل من القرآن، قوله: ما أنا بقارئ، وقع عند بن إسحاق في مرسل عبيد بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب، قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال السهيلي: قال بعض المفسرين: إن قوله: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ـ إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حيث قال له: اقرأ .اهـ. من فتح الباري باختصار.
وأما إنكار السنة الصحيحة إلا ما وافق القرآن: فهذه بائقة قديمة، جرى عليها أهل الأهواء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بظهور هذه النابتة، فعن المقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانًا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. أخرجه أحمد.
وفي لفظ له: يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله. والحديث صححه ابن حبان، وابن تيمية، وغيرهم.
وراجع في منزلة السنة والرد على المشككين فيها الفتويين رقم: 8407، ورقم: 199637.
ومن العجيب أن يرد شخص السنة الصحيحة، ثم يختلق وينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم ينقل عنه ـ كصنيع المتفوه بالترهات السابقة ـ وهذا التناقض والاضطراب هو سيما أهل الباطل المخالفين للحق.
والله أعلم.