الفتاوى

هل يجوز للجنب أن يقرأ القرآن دون مس المصحف ؟
هل يجوز قراءة القراّن من دون لمس للجنب ، منهم من قال : لا يجوز ، واستدلوا بحديث كان لا يحجزه عن القراّن إلا الجنابة ، ومنهم من قال : يجوز ، فكان عليه الصلاة والسلام يذكر الله في جميع أحواله ، فما هو القول الصحيح ؟

الإجابة


الحمد لله
أولاً :
ذهب عامة الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم إلى تحريم قراءة القرآن على الجنب ، ولو من غير مسٍّ للمصحف .
قال الترمذي رحمه الله : " وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلِ : سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ " انتهى من " سنن الترمذي " (1/195) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (21/ 344) .

وقال الكاساني رحمه الله : " وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ " انتهى من " بدائع الصنائع " (1/37) .

وقد ورد في النهي عن قراءة الجنب للقرآن عدد من الأحاديث ، ولكنها لا تخلو من ضعف .
ومن أقربها للصحة حديث علي بن أبي طالب .
وقد رواه الإمام أحمد (1011) ، وأبو داود ( 229) ، والنسائي (265) ، وابن ماجه (594) من طريق شُعْبَة عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ قَالَ : أَتَيْتُ عَلِيًّا أَنَا وَرَجُلَانِ ، فَقَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ الْخَلَاءِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ ) ، [ أي : غير الجنابة ] .
وفي لفظ : ( لَا يَحْجُزُهُ عَنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ ) .

وهذا الحديث مما تنازع العلماء في صحته ، نظراً لاختلافهم في راويه عن علي بن أبي طالب وهو : ( عبد الله بن سَلِمة المرادي ) .
فقد وثقه : ابن حبان ، والعجلي ، ويعقوبُ بن شيبة ، وتكلم فيه غيرهم من : حيث الضبط والإتقان .
قَال العجلي : " كوفي ، تابعي ، ثقة " .
وَقَال يعقوب بْن شَيْبَة : " ثقة ، يعد في الطبقة الأولى من فقهاء الكوفة ، بعد الصحابة " .
وقَال البُخارِيُّ : " لا يتابع فِي حديثه " .
وَقَال أَبُو حاتم : " تَعرف وتُنكر " .
وقال عمرو بن مرة : " كان عبد الله بن سلمة يُحدثنا فكان قد كَبِرَ ، فكنا نَعرف ونُنكر" .
وقال ابن عدي : " وقد روى عبد الله بن سلمة عن علي وعن حذيفة وعن غيرهما غير هذا الحديث ، وأرجو أنه لا بأسَ به " .

وقد لخص الحافظ ابن حجر أقوال العلماء فيه ، ومال إلى تضعيفه ( ولكنه ضعف ليس بالشديد ) ، فقال في " التقريب " : " صدوق تغير حفظه " .
ينظر في ترجمته وكلام الأئمة فيه : " الكامل في ضعفاء الرجال " (5/281) ، " تهذيب الكمال في أسماء الرجال " (15/52) ، " ميزان الاعتدال " (2/430) ، " إكمال تهذيب الكمال " (7/388)

وممن صحح هذا الحديث من الأئمة : الترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، والبغوي ، وعبد الحق الإشبيلي ، وابن عبد البر .
ومن المتأخرين : الشيخ أحمد شاكر ، وكذا محققو مسند الإمام أحمد في طبعة الرسالة ، وكذلك الشيخ ابن باز ، رحم الله الجميع .

ولكن أكثر أهل الحديث على تضعيفه .
قَالَ الإمام الشَّافِعِي : " أهل الحَدِيث لَا يثبتونه " انتهى من " خلاصة الأحكام " (1/207) .
وقال البيهقي : " وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ الْكُوفِيِّ ، وَكَانُ قَدْ كَبُرَ ، وَأُنْكِرَ مِنْ حَدِيثِهِ وَعَقْلِهِ بَعْضُ النَّكْرَةِ ، وَإِنَّمَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بَعْدَ مَا كَبُرَ ، قَالَهُ شُعْبَةُ " انتهى من " معرفة السنن والآثار " (1/323) .
وقال الإمام النووي : " قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُحَقِّقِينَ : هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ " انتهى من " المجموع شرح المهذب " (2/159) .
وضعفه كذلك الشيخ الألباني.
ينظر: " صحيح ابن حبان " (977) ، " الاستذكار " (2/460) ، " شرح السنة " (1/359) ، " الأحكام الصغرى " صـ 134 ، " إرشاد الفقيه " (1/62) ، " المحرر " صـ 73 ، " خلاصة الأحكام " (1/207) ، مسند الإمام أحمد (2/61) .

وقال الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث : " وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ " انتهى من " فتح الباري " (1/408) .
وقال الشيخ الألباني : " هذا رأى الحافظ في الحديث , ولا نوافقه عليه , فإن الراوي المشار إليه وهو عبد الله بن سلمة قد قال الحافظ نفسه فى ترجمته من التقريب : صدوق تغير حفظه .
وقد سبق أنه حدث بهذا الحديث فى حالة التغير ، فالظاهر هو أن الحافظ لم يستحضر ذلك حين حكم بحسن الحديث , والله أعلم" انتهى من " إرواء الغليل " (2/242) .
وقال : " فهذا الإمام الشافعي وأحمد والبيهقي والخطابي قد ضعفوا الحديث ، فقولهم مقدَّم لوجوه :
الأول : أنهم أعلم وأكثر .
الثاني : أنهم قد بينوا علة الحديث ، وهي كون راويه قد تغير عقله وحدث به في حالة التغير ، فهذا جرح مفسر لا يجوز أن يصرف عنه النظر" انتهى من " تمام المنة " (ص/109) .

وعلى القول بصحة الحديث ، فقد رأى بعض الأئمة أنه ليس صريحاً في منع القراءة للجنب .
قال الحافظ : " قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ : لَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ مَنَعَ الْجُنُبَ مِنْ الْقِرَاءَةِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ فِعْلٍ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْجَنَابَةِ " انتهى من " التلخيص الحبير" (2/ 244) .

يعني أن مجرد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لقراءة القرآن وهو جنب لا تدل على التحريم .

وأجيب عن هذا بأن قول علي رضي الله عنه : ( لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة ) وفي لفظ ( لا يحجزه ) يدل على أن الجنابة حاجب وحاجز بينه وبين قراءة القرآن ، وهذا لا يكون إلا في شيء هو ممنوع منه .
ولذلك قال الإمام الشافعي عنه : " إنْ كَانَ ثَابِتًا فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ " انتهى من " المجموع شرح المهذب " (2/159) .

وقد احتج بعض العلماء بهذا الحديث بعد تقويته بالأحاديث الأخرى الواردة في المسألة ذاتها ، وكأنهم يرون أنه يصير من قبيل الحديث الحسن لغيره .

قال تاج الدين السبكي رحمه الله : " وفي الباب أحاديث أخر ضعيفة ، وقد ينتهي مجموعها إلى غلبات الظنون ، وهي كافية في المسألة ، فالمختار ما عليه الجمهور" انتهى من " طبقات الشافعية الكبرى " (4/ 15) .
وقال المباركفوري رحمه الله : " وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ في تحريم قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ ، وَفِي كُلِّهَا مَقَالٌ ، لَكِنْ تَحْصُلُ الْقُوَّةُ بِانْضِمَامِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَمَجْمُوعُهَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَا " انتهى من " تحفة الأحوذي" (1/ 346) .

ويؤيد هذا القول شهرته بين الصحابة ، فقد ثبت عن خمسة منهم ، وهم :
1- عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
روى عبد الرزاق في "مصنفه" (1/337) عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ : ( كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُبٌ ) . [ والكراهة عند السلف تعني الحرمة ] .
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 97) بلفظ : ( لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ ) .
وصحح إسناده البيهقي في الخلافيات (325) .
وقال ابن كثير : " هذا إسناد صحيح " انتهى من " مسند الفاروق " (1/128) .
وقال ابن حجر : " وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُبٌ ، وَسَاقَهُ عَنْهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ " انتهى من " التلخيص الحبير " (1/241) .
2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
رواه الدارقطني في "سننه" (1/212) عن أَبي الْغَرِيفِ الْهَمْدَانِيُّ , قَالَ : كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ فِي الرَّحَبَةِ , فَخَرَجَ إِلَى أَقْصَى الرَّحَبَةِ , فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَبَوْلًا أَحْدَثَ أَوْ غَائِطًا , ثُمَّ جَاءَ فَدَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ , فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثُمَّ قَبَضَهُمَا إِلَيْهِ , ثُمَّ قَرَأَ صَدْرًا مِنَ الْقُرْآنِ , ثُمَّ قَالَ : ( اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا لَمْ يُصِبْ أَحَدَكُمْ جَنَابَةٌ , فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ فَلَا ، وَلَا حَرْفًا وَاحِدًا ) .
قال الدارقطني : " هُوَ صَحِيحٌ عَنْ عَلِيٍّ " .
3- ابن مسعود رضي الله عنه :
روى ابن أبي شيبة في " المصنف " (1/102) عَنْ إبْرَاهِيمَ ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَمْشِي نَحْوَ الْفُرَاتِ ، وَهُوَ يُقْرِئُ رَجُلاً ، فَبَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، فَكَفَّ الرَّجُلُ عَنْهُ ، فَقَالَ : ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا لَكَ ؟ قَالَ : إنَّك بُلْت .
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنِّي لَسْتُ بِجُنُبِ .
4-عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
قال الإمام مالك : أَخْبَرَنَا نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ ، كَانَ يَقُولُ : ( لا يَسْجُدُ الرَّجُلُ [ يعني : سجدة التلاوة ] ، وَلا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ ) انتهى من " موطأ الإمام مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني " (ص/107) .
فقد حمله بعض العلماء على أن المراد به الطهارة الكبرى ، وهي الطهارة من الجنابة ، لأن ابن عمر كان يرى جواز سجود التلاوة بدون وضوء . انظر : فتح الباري ، كتاب الجمعة ، باب سجود المسلمين مع المشركين .
5= سلمان الفارسي رضي الله عنه .
عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ أَحْدَثَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَتَقْرَأُ وَقَدْ أَحْدَثْتَ ؟
قَالَ : " نَعَمْ , إِنِّي لَسْتُ بِجُنُبٍ " رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/90) .
فهذه خمسة آثار عن الصحابة تدل على منع الجنب من قراءة القرآن ومن بينها آثار عن اثنين من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالتمسك بسنتهم والعض عليها بالنواجذ . بل قال أبو الحسن الماوردي : " تَحْرِيمَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ قَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ " انتهى من " الحاوي الكبير" (1/148) .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله : " والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة " انتهى من " فتح الباري " (2/49) .

والقول بتحريم قراءة القرآن على الجنب هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وعليه فتوى الشيخ ابن باز وابن عثيمين واللجنة الدائمة للإفتاء .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " الْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (26/190) .
وقال رحمه الله أيضاً : " وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (17/12) .

وفي " فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى " (5/380) : " أما الجنب فلا يمس المصحف ، ولا يقرأ القرآن ولا يعلمه الطلاب حتى يغتسل" انتهى .

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " الواجب على من أصابته جنابة أن يغتسل قبل أن يقرأ القرآن ؛ لأن قراءة القرآن على الجنب حرام على القول الراجح , ولا يحل للإنسان أن يقرأ شيئاً من القرآن بنية قراءة القرآن وهو جنب " انتهى من " لقاء الباب المفتوح " .

ثانياً :
نسب بعض العلماء إلى ابن عباس جواز قراءة القرآن للجنب اعتماداً على ما ذكره البخاري في صحيحه معلَّقاً بصيغة الجزم : " وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسِ بالقِرَاءَةِ لَلْجُنُبِ بَأْساً " انتهى .
وهذا النقل المجمل قد سبب وهماً في فهم مذهب ابن عباس ، حيث ظن بعضهم أنه يرخص للجنب بقراءة القرآن مطلقاً ، بينما مذهبه الترخيص للجنب بقراءة الآية والآيتين فقط أو قراءة الورد ، لا الرخصة المطلقة بقراءة القرآن .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله - مخرِّجاً أثر ابن عباس الذي ذكره البخاري - : " وَأما قَول ابْن عَبَّاس ، فَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف : حَدَّثنا الثَّقَفِيّ عَن خَالِد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس : أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يقْرَأ الْجنب الْآيَة والآيتين " انتهى من " تغليق التعليق " (2/171) .
ورواه ابن المنذر في " الأوسط " (2/ 98) من طريق الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُكْمِلٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ : " لَا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ الْآيَةَ وَنَحْوَهَا " .

وفي هذا دليل على أن ابن عباس ممن يمنع الجنب من قراءة القرآن ؛ لأن ترخيصه في قراءة الآية والآيتين يفيد منعه من قراءة ما سواهما ، وإلا لم يكن لهذا التقييد فائدة .

ولا يشكل على هذا ما ذكره ابن المنذر في " الأوسط " (2/98) من طريق يَزِيد النَّحْوِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وِرْدَهُ وَهُوَ جُنُبٌ ) .
قال الحافظ : " وَإِسْنَاده صَحِيح " انتهى من " تغليق التعليق " (2/172) .
لأن كلمة ( ورد ) أعم من قراءة القرآن ، فالمقصود بها الذكر الذي يواظب عليه صباحاً أو مساءً ، وهذا الذكر قد يتخلله آية أو آيتان من القرآن ، ولذلك فهو يلتقي مع قوله السابق في الترخيص بقراءة الآية والآيتين .
وإن قيل : المقصود منها ورده من القرآن ، فهو يدل على الترخيص للجنب في قراءة الورد ، فقط ، لا أكثر .
ولذلك قال ابن قدامة في " المغني " (1/ 199) : " وَلَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ جُنُبٌ ... وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَقْرَأُ وِرْدَهُ " انتهى .

والحاصل : أنه لا يثبت نص صريح عن ابن عباس يدل على جواز قراءة الجنب للقرآن مطلقاً ، وإنما هو ترخيص له بقراءة الآية والآيتين للحاجة ، كما هو قول كثير من العلماء ، أو بقراءة الورد ، فقط .
وهناك روايات أخرى عن ابن عباس قد يفهم منها الترخيص المطلق للجنب بقراءة القرآن ، لكنها لا تروى عنه بسند صحيح .

ثالثاً :
ذهب بعض العلماء إلى جواز قراءة القرآن للجنب ، وهو مذهب الظاهرية ، ينظر : " المحلى " (1/77) .
قال ابن عبد البر رحمه الله : " وَقَدْ شَذَّ دَاوُدُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِإِجَازَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ" انتهى من " الاستذكار " (2/474) .
ومما استدلوا به على الجواز : حديث عائشة رضي الله عنها : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ ) رواه مسلم (117) .
قالوا : هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه ، ومنها حال الجنابة ، والذكر يشمل القرآن ، فلا فرق بين القرآن وبين سائر الأذكار .
غير أن في شمول هذا الحديث لقراءة القرآن نظرا عند عامة العلماء .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : " وفيه دليل على أن الذكر لا يمنع منهُ حدث ولا جنابة ، وليس فيهِ دليل على جواز قراءة القرآن للجنب ؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد بهِ القرآن " انتهى من " فتح الباري " (2/45) .

وقال ابن حبان رحمه الله : " وقد توهم غير المتبحِّر في الحديث أنّ حديث عائشة : ( كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله على كل أحيانه ) يعارض هذا ، وليس كذلك ؛ لأنها أرادت الذكر الذي هو غير القرآن ، إذ القرآن يجوز أن يُسمى ذكرا ، وكان لا يقرأ وهو جنب ويقرأ في سائر الأحوال " انتهى ، نقلا من " شرح سنن ابن ماجه " لمغلطاي (ص/755) ، وينظر : صحيح ابن حبان (3/81) .

وقال الماوردي رحمه الله : " وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ قُرْآنًا " انتهى من " الحاوي الكبير " (1/149) .

وللمجيزين أدلة أخرى ذكرها ابن رجب رحمه الله وأجاب عليها فقال : " وأما استدلال المجيزين بحديث عائشة : ( اصنعي ما يصنع الحاج ، غير أن لا تطوفي ) ، فلا دلالة لهم فيهِ ؛ فإنه ليس في مناسك الحج قراءة مخصوصة حتَّى تدخل في عموم هذا الكلام ، وإنما تدخل الأذكار والأدعية .
وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل ، فلا دلالة فيهِ ؛ لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ " انتهى من " فتح الباري " (2/49) .

وحاصل ما سبق :
أن القول المعتمد الذي عليه عامة العلماء سلفاً وخلفاً هو تحريم قراءة القرآن على الجنب .

وينظر للفائدة إلى جواب السؤال (147164) .

والله أعلم .

Icon