الفتاوى

إعجاز القرآن ومصدريته
لقد قرأت شبهة تقول: إذا كان الرسول تحدي العرب ببلاغة القرآن ، والله قد قال لهم فيه : أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، فهذا تحدي باطل ؛ لأنهم إن أتوا بمثله لقال المسلمون أنه مجرد تقليد ومحاكاة للقرآن ، فإذا مثلا تحداني الشاعر فلان أن أكتب قصيدة مثل قصيدته ، فقمت بكتابة قصيدة مكافئة ومشابهة تماما لقصيدة الشاعر فلان ، فإنه حينها سيقول: إن هذا تقليد ومحاكاة ؛ لأنه هو الذي تحداني ، وهو أيضا الحكم ، حتي وإن كانت قصيدتي مماثلة له تماما ؛ لأنه سيكذب حفاظا علي مظهره ، وعليه فلو جئت بسورة مثل القرآن سيقال عليها إنها مجرد تقليد للقرآن ليس إلا ، ولو أتيت بسورة لا تشبه القرآن فهي بالفعل ليست مثله ، وبالتالي يستحيل أن يربح أحد أمام المسلمين في مثل هذا التحدي حتي لو جاء بسورة مثل القرآن ، وكيف يكون القرآن قد تحدي فحول العرب بلاغيا كما يقول المسلمون لكون العرب أهل بلاغة ، بينما لم يكن أي من شعراء المعلقات ـ والتي هي قمة بلاغة العرب ـ من قريش أو حتي مكة ؟ وما هو أصلا الدليل علي أن القرآن أعجز الكفار ، وأنهم لم يستطعوا الصمود أمام التحدي في ظل تنقيح كتب التراث الاسلامي ، فقد يكونون قد ردوا علي هذا التحدي ، ولكن لم يذكره المؤرخون ، فالتاريخ يكتبه المنتصر ، والمسلمون هم المنتصرون ؟

الإجابة

الحمد لله  

أولًا:

إن أوجه الدلالة على مصدرية القرآن وكونه من عند الله ليست محصورة في تحدي القرآن للعرب فحسب، أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة .. وإنما هي أوجه متضافرة ، ودلالات غير منحصرة على كون القرآن من عند الله تبارك وتعالى .

ومن تلك الحجج التي نذكرها بصورة مجملة:

1- إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بكون القرآن ليس له، وإنما هو من الله ، وهذا الإقرار مع ما عرف من أحواله وشمائله : حجة ، وأي حجة .

2- أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم أخذه القرآن عن العرب ولا عن أهل الكتاب ، ولا عن غيرهم .

3- الجانب البلاغي في القرآن، وهذا الجانب بشهادة العرب واليهود والنصارى في عصور متعددة إلى عصرنا الحالي .

4- الآيات المتعددة في القرآن، كالجانب الغيبي، والتشريعي، والأخلاقي، والتاريخي .

هذه أربع حجج، وراجع: "النبأ العظيم"للشيخ د. محمد دراز، و"براهين النبوة" للشيخ د. سامي عامري، ففيهما مزيد بيان .

ثانيًا:

لقد تحدى القرآن العرب كل العرب، فلم يقتصر التحدي على عرب مكة فحسب، ولو قدر أن أحدهم قد جاء بقصيدة ، أو خطبة كالقرآن، فإنهم لن يتوانوا في رفع شأنها، وهم الذين كانوا يعقدون للشعر أسواقًا يقضى فيها على شعراء، ويرفع فيها غيرهم عبر مقاييس بيانية ، وذوق رفيع .

ومن باب أولى أيها السائل أن يجد هؤلاء طريقة للمقارنة بين القرآن وغيره بدل الحروب الطاحنة، وفقد الأنفس والأموال، إن القرآن المجيد لم يستطع أحد من وقت نزوله إلى عصرنا أن يعارضه، وإن كبار علماء الأدب والبلاغة لم تزدهم معرفتهم بهذه العلوم إلا خضوعًا للقرآن الكريم، وإيمانًا بقدسيته، ومكانته .

وقد تحداهم القرآن، وكرر عليهم التحدي في صور شتى:

فدعاهم أن يأتوا بمثله .

ثم أن يأتوا بعشر سور مثله .

ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله .

ثم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله .

وأباح لهم – مع ذلك – أن يستعينوا بمن شاؤوا .

ومع ذلك كله؛ استيأسوا من قدراتهم، واستيقنوا عجزهم، فركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف، ومضت القرون تلو القرون ولم يستطع أحد أن يقف أمام التحدي القائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

ولا يصح القول إن العرب قد انصرفت هممهم عن معارضة القرآن، لأمور:

1- لأن الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة، سيما مع استثارة حميتهم، والدعوة التي تكررت لهذه المعارضة، ولهي أهون عليهم مما قاموا به.

2- أن العرب قعدوا حتى عن تجربة المعارضة، ولم يشرع منهم إلا أقلهم عددًا، وأسفههم رأيًا، إذًا: فلقد كانوا في غنى بهذا العلم الضروري، عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب .

لقد كان القرآن نفسه مثار عجبهم وإعجابهم، حتى إنهم ربما خروا سجدًا لسماعه ، كما ثبت ذلك بالإسناد الصحيح ، في سورة النجم .

روى البخاري في صحيحه (4862) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ" .

ثالثًا:

وأما عن شبهة المعارضة ، والمحاكاة ، والأصل ، والشبيه ، فيقول العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز ، رحمه الله :

" إننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية، كلا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه، وإنما نطلب كلامًا أيًّا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيًّا كانت فطرته ومزاجه، بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة، فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون. وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم.

... إن كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كفتي ميزان، ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي وأساليب سائر الناس، وكان قد رزق حظ ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية، وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها، ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها.. استدلالًا بصنعة "ليس كمثلها شيء" على صانع لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" .

انتهى من"النبأ العظيم"(124)، وما بعدها، بتصرف .

رابعًا:

دعوى كون التاريخ لم يحفظ لنا محاولة الانتهاض لمعارضة القرآن دعوى باطلة، لأمور:

1- أنه قد حفظ لنا بالفعل بعض المعارضات، انظر: "براهين النبوة"(236) .

2- أن القرآن نفسه حفظ لنا ما يعكس طبيعة المعارضات في هذا العصر، فحفظ لنا ما ذكره أهل الشرك عنه .

3- بل حفظ القرآن معاتبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات متعددة .

4- أن الأفكار والمذاهب لا تموت بموت أصحابها، وقد بقيت ملل كثيرة، وبقيت كتبها، وبقيت كتب معارضة للإسلام والقرآن، ولم نجد بينها معارضة له على النحو الذي ذكرت .

راجع، "براهين النبوة" لسامي عامري (86 - 111)، (215) وما بعدها .

وننصح بمطالعة كتاب "النبأ العظيم" للعلامة الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله ، ومثله أيضا : "مدخل للدراسات القرآنية"، ففيهما فائدة، وغنية إن شاء الله .

وينظر للفائدة جواب السؤال رقم: (245475).

والله أعلم 

Icon