الفتاوى

هل في القرآن حروف عاطلة
يدعي المشكِّكُون أنَّهُ جاء في فواتح 29 سورةً بالقرآن الكريم حروف عاطلة، لا يُفهم معناها، مثل: الر، الم، المر، المص، حم، طس... وغيرها. ونحن نسأل: إن كانت هذه الحروف لا يعلمها إلا الله (كما يقولون)، فما فائدتها لنا؟ إن الله لا يوحي إلا بالكلام الواضح؛ فكلام الله بلاغ وبيان وهدى للناس.

الإجابة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقدِ افْتَتَحَ اللهُ تِسْعاً وعشرينَ سُورةً من كتابه العزيز بحروف التهجِّي، وربما عُبِّر عنها بالحروف المُقطَّعة في فواتِحِ السور، وهذه الحروف من مظاهر ودلائل إعجاز القرآن الكريم.

قال السيوطيُّ في كتابه العظيم "معترك الأقران في إعجاز القرآن" - وهو يتكلم عن أوجه الإعجاز-: "قال في البرهان: ومن ذلك افتِتاحُ السُّوَرِ بالحروف المقطَّعة، واختصاص كل واحدةٍ بما بُدِئَتْ به، حتى لم تكن تَرِدُ «الم» في موضع «الر» ولا «حم» في موضع «طس»، قال: وذلك أنَّ كُلَّ سورة بُدِئَتْ بحرف منها فإنَّ أكْثَرَ كلماتِها وحروفِها مُماثلٌ له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع "ق" موضع "ن"، لم يمكن؛ لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله. وسورة "ق" بُدِئَت به لِمَا تَكَرَّرَ فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذلك القرآن، والخلق، وتكرير القول، ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد والرقيب، والسابق، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، والقلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وتشقُّق الأرض، وحقوق الوعيد، وغير ذلك.

وقد تكررت الراء في سورة يونس من الكلام الواقع فيها إلى مائتي كلمة أو أكثر، فلهذا افتتحت بالراء.

واشتملت سورة "ص" على خصومات متعددة، فأولها خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار وقولهم: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 4]. ثم اختصام الخصمين مع داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم.

و((الم)) جمعت المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها؛ وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والتوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي. وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة.



وسورة الأعراف زِيدَ فيها الصاد على ((الم)) لِمَا فيها من شرح القصص: قصة آدم فَمَنْ بَعْدَهُ من الأنبياء، ولما فيها من ذكر: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2]، ولهذا قال بعضهم: معنى ((المص)): ألم نشرح لك صدرك.

وزيد في الرعد الراء لأجل قوله: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2]، ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرها.

واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن، كقوله تعالى: {الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1]. {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 3]. {المص . كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1، 2]. {المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ} [الرعد: 1]. {طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} [طه: 1]. {طسم . تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء: 1 والقصص: 1]. {يس . وَالْقُرْآَنِ} [يس: 1، 2]. {ص وَالْقُرْآَنِ} [ص: 1]. {حم . تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [غافر: 1]. {ق وَالْقُرْآَنِ} [ق: 1]. إلا في ثلاث سور: العنكبوت، والروم، ون، ليس فيها ما يتعلق به، وقد ذكرت حكمة ذلك في "أسرار التنزيل".

وقال العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان": أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مُرَكَّب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها". وقال ابن كثير: ... ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه، وذكر ذلك بعدها دائمًا دليلٌ استقرائيٌّ على أنَّ الحروفَ المُقَطَّعة قُصِدَ بها إظهارُ إعجاز القرآن وأنَّه حَقٌّ".

- ومن ذلك الإشارة إلى أن القرآن الكريم مُرَكَّب من جنس هذه الأحرف التي يكوِّن منها العرب كلامهم، وأن القرآن لم يغير من أصول اللغة ومادتها شيئاً، ومع ذلك فإنهم يعجزون عن أن يَصيغوا من تلك الحروف مثل هذا القرآن العظيم المعجز؛ لأنه كلام الله - عز وجل - وأنزله بعلمه؛ قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [هود: 13، 14].

- ومنها: أن هذه الحروف "المُقطعة" التي بُدِئَت بها بعض سور القرآن إنما هي أدوات صوتية مُثِيرة لانتباه السامعين، يُقصد بها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السَّماع من أول وهلة؛ فمثلا "الم " في مطلع سورة البقرة، وتستغرق قراءتها مسافة من الزمن بقدر ما يتسع لِتِسْعَةِ أصوات، يتخللها المد -مد الصوت- عندما تقرع السمع تُهَيِّئُه، وتجذبه لعقبى الكلام قبل أن يسمع السامع قوله تعالى بعد هذه الأصوات التسعة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وإثارة الانتباه بمثل هذه المداخل سمة من سمات البيان العالي – الذي لا يعقله إلا العالمون- ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذه "الحروف" في فواتح السور عبارة: "قرع عصى"، وهى وسيلة تُستَعْمَل في إيقاظ النائم، وتنبيه الغافل؛ لأن الله عز وجل دعا الناس لسماع كلامه، وتَدَبُّر معانيه، قال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

- ومنها: أن فيها سرًا دقيقًا من أسرار الإعجاز القرآني المُفحِم، فإذا تأملتَ ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء -يقصد الحروف- وجدتَها نِصْفَ حروف المعجم - أربعة عشر- وهي: "ا ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن" يجمعها قولُك: نص حكيم قاطع له سر، وهي أشرفُ منَ الحروف المتروكة.

قال الزمخشري: "إذا نظرتَ في هذه الأربعة عشر وجدتَها مشتملةً على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أنَّ فيها:

- من المهموسة نصفَها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء.

- ومن المجهورة نصفَها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون.

- ومن الشديدة نصفَها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف.

- ومن الرخوة نصفَها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون.

- ومن المطْبَقَة نصفَها: الصاد، والطاء.

- ومن المنْفَتِحَة نصفَها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون.

- ومن المسْتَعْلِيَة نصفَها: القاف، والصاد، والطاء.

- ومنَ المنْخَفِضَة نصفَها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون.

- ومن حروف القلقلة نصفَها: القاف، والطاء.

ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرَها من هذه الأجناس المعدودةِ مكثورةً بالمذكورة منها، فسبحان الذي دَقَّتْ في كل شيء حِكْمَتُه.

وقد عَلِمْتَ أنَّ مُعظَمَ الشَّيْءِ وجُلَّهُ يَنْزِلُ منزلة كُلِّهِ، وهو المُطابقُ لِلطائِفِ التنزيل واختصاراتِه، فكأنَّ اللهَ عزَّ اسمُه عدَّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارةً إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم، ومما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعًا في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لمَّا تَكاثر وقوعُهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين. وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر. فإنْ قُلْتَ: فهلا عددت بأجمعها في أول القرآن؟ وما لها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأنَّ إعادة التنبيه على أن المتحدى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقر له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره". ولولا الخروج عن المقصود لنقلناه فليراجع في تفسيره الكشاف مع حاشية السيد الشريف عليه.

ومن هذا العرض الموجز يَتَبَيَّنُ بعضُ أوجه إعجاز القرآن في هذا الجانب أما قول الطاعنين الجدد: إن تلك الحروف كلامٌ عاطلٌ فَيَدُلُّ على ضَعْفِ عَقْلِ قائِلِه، وأَنَّهُ صِفْرُ اليَدَيْنِ في البلاغة والبيان وفَهْمِ تراكيب اللُّغَةِ العربية، وصَوْغِ تراكيبِها صَوْغًا سليمًا وأنَّ نصيبَهُ من الفهم كنصيبه من الهداية!

وعليه، فليس في هذا المعنى ما يُطعن به في القرآن، بل إنَّ العكس هو الصحيح؛ فإنها تدُلُّ على إعجاز القرآن الكريم، وَعَدَمِ قُدْرَةِ الخلق على الإتيان بمثله.

فلو كانت هذه "الحروف" من الكلام العاطل، لما تركها العرب المعارضون للدعوة في عصر نزول القرآن، وهم المشهود لهم بالفصاحة والبلاغة، والمهارة في البيان إنشاءً ونقدًا – مع وجود المقتضي – وهو كفرُهم الشديد- وعدم المانع فقد كانوا ممكنين ومع كثرة تحدي القرآن لهم؛ فعلى قدر ما حاولوا الطعن في القرآن لم يثبت عنهم أنهم عابوا هذه "الفواتح" وهم أهل الذكر "الاختصاص" في هذا المجال. وأين يكون هؤلاء الذين يتصدون الآن لنقد القرآن من أولئك الذين كانوا أعلم الناس بمزايا الكلام وعيوبه؟! ولكن يبدو أن كفار الماضي كانوا أعقل وأكثر إنصافًا من كفار الحاضر.

فقد سلموا للقرآن بالتفوق في هذا الجانب، بل وامتدحوه حتى قال الوليد بن المغيرة - وهو من أئمة الكفر -: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى" ومن ثَمَّ تَوَاصَوْا بَيْنَهُمْ على عدم سماعه، والشوشرة عليه قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].

قال الأستاذ سيد قطب في "الظلال": إنه هذا القرآن.. بصائر تهدي، ورحمة تفيض.. لمن يؤمن به، ويغتنم هذا الخير العميم. إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب -في جاهليتهم- يعرضون عنه، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل، في طفولة البشرية، وفي الرسالات المحلية غير العالمية، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها، فكيف بمن بعدهم من الأجيال، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة!

إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه.. من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان.. لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان!

ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد.. يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة -متى خلي بينها وبينه لحظة!- وحتى الذين رانت على قلوبهم الحُجُب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحياناً؛ وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن!

إن الذين يقولون كثيرون.. وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات.. ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب!.. ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم - ويقولون لأنفسهم في الحقيقة-: {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].. لِما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب! غير أن هذا القرآن يظل -مع ذلك كله- غلاباً.. وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون!". والله أعلم.

Icon