الإجابة
هذا، مع أن ابن فُورَك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين،
وكذلك المجيء والإتيان، موافقةً لأبي الحسن، فإن هذا قوله، وقول
متقدمي أصحابه.
فقال ابن فُوَرك فيما صنف في أصول الدين: فإن سألت الجهمية عن
الدلالة على أن القديم سميع بصير، قيل لهم: قد اتفقنا على أنه حي
تستحيل عليه الآفات، والحي إذا لم يكن مأووفًا بآفات تمنعه من إدراك
المسموعات والمبصرات كان سميعًا بصيرًا.
وإن سألت فقلت: أين هو؟، فجوابنا: إنه في السماء، كما أخبر في
التنزيل عن نفسه بذلك، فقال عز من قائل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}
[الملك: 16]، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها
إليه.
وأنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت: أين اللّه؟ لقالوا: إنه
في السماء، ولم ينكروا لفظ السؤال بـ [أين]؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال .
ولو كان ذلك قولا منكرًا لم يحكم بإيمانها، ولأنكره عليها.
ومعني ذلك أنه فوق السماء؛ لأن [في]: بمعني فوق، قال اللّه
تعالى: {فَسِيحُواْ فِي
الأَرْضِ} [التوبة: 2]، أي: فوقها.
قال: وإن سألت: [كيف هو؟]، قلنا له: [كيف] سؤال عن
صفته وهو ذو الصفات العلى هو العالِم الذي له العلم، والقادر الذي له
القدرة، والحي الذي له الحياة، الذي لم يزل منفردًا بهذه الصفات لا
يشْبه شيئًا، ولا يشبهه شيء.
قلت: فهذا الكلام هو موافق لما ذكره الأشعري [هو أبو الحسن على
بن إسماعيل بن إسحاق، من نسل الصحابي أبو موسي الأشعري توفي عام
423هـ، وكان مولده سنة 072هـ] في كتاب [الإبانة]، ولما ذكره ابن
كلاب كما حكاه عنه ابن فورك، لكن ابن كلاب يقول: إن العلو والمباينة
من الصفات العقلية، وأما هؤلاء فيقولون: كونه في السماء صفة خبرية
كالمجيء والإتيان، ويطلقون القول بأنه بذاته فوق العرش، وذلك صفة
ذاتية عندهم.
والأشعري يبطل تأويل من تأول الاستواء بمعني الاستيلاء والقهر،
بأنه لم يزل مستوليًا على العرش وعلى كل شيء، والاستواء مختص بالعرش،
فلو كان بمعني الاستيلاء لجاز أن يقال: هو مستو على كل شيء وعلى
الأرض وغيرها. كما يقال: إنه مستولٍ عليها. ولما اتفق المسلمون
على أن الاستواء مختص بالعرش، فهذا الاستواء الخاص ليس بمعني
الاستيلاء العام، وأين للسلطان جعل الاستواء بمعني القهر والغلبة، وهو
الاستيلاء؟ فيشبه واللّه أعلم أن يكون اجتهاده مختلفًا في هذه
المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل، ثم
حرمه، وحكي إجماع السلف على تحريمه، وابن عقيل له أقوال مختلفة، وكذلك
لأبي حامد، والرازي، وغيرهم.
ومما يبين اختلاف كلام ابن فورك أنه في مصنف آخر قال: فإن قال
قائل: أين هو؟ قيل: ليس بذي كيفية فنخبر عنها إلا أن يقول:
[كيف صنعه؟]، فمن صنعه أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو
الصانع للأشياء كلها.
فهنا أبطل السؤال عن الكيفية، وهناك: جوزه، وقال: الكيفية هي
الصفة، وهو ذو الصفات، وكذلك السؤال عن الماهية، قال في ذلك المصنف:
وإن سألت الجهمية فقالت: ما هو؟، يقال لهم: [ما] يكون
استفهامًا عن جنس أو صفة في ذات المستفهم.
فإن أردت بذلك سؤالًا عن صفته فهو العلم، والقدرة، والكلام والعزة،
والعظمة.
وقال في الآخر: فإن قال قائل: حدثونا عن الواحد الذي تعبدونه
ما هو؟ قيل: إن أردت بقولك: ما جنسه؟ فليس بذي جنس، وإن أردت
بقولك: ماهو؟ أي: أشيروا إليه حتى أدركه بحواسي، فليس بحاضر
للحواس، وإن أردت بقولك: ماهو؟ أي: دلوني عليه بعجائب صنعته
وآثار حكمته، فالدلالة عليه قائمة.
وإن أردت بقولك: ما اسمه؟ فنقول: هو اللّّه، الرحمن، الرحيم،
القادر، السميع، البصير.
وهو في هذا المصنف أثبت أنه على العرش بخلاف ما كان عليه قبل العرش،
فقال: فإن قال: فحدثونا عنه أين كان قبل أن يخلق؟ قيل:
[أين؟] تقتضي مكانًا، والأمكنة مخلوقات، وهو سبحانه لم يزل قبل
الخلق والأماكن، لا في مكان ولا يجرى عليه وقت ولا زمان.
فإن قال: فعلى ما هـو اليوم؟ قيـل له: مستوٍ على العـرش كما
قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وقال: فإن قال قائل: لم يزل الباري قادرًا عالمًا حيًا سميعًا
بصيرًا؟ قيل:نعم، فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون لم يزل خالقًا؟
قيل له: إن أردت بقولك:لم يزل خالقا.
أي: لم يزل الخلق معه في قدمه، فهذا خطأ، لأن معني الخلق أنه لم
يكن ثم كان.
فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا، وإن أردت بقولك أن
الخالق لم يزل وكان قادرًا على أن يخلق الخلق، فكذلك نقول: لأن
الخالق لم يزل والخلق لم يكن ثم كان، وقد كان لم يزل قادرًا على أن
يخلق الخلق، فهذا الجواب.
قال: فإن قيل: إذا قلتم إنه الآن خالق فما أنكرتم أن يكون لم يزل
خالقًا؟ قيل له: لا يلزم ذلك، وذلك أنـه الآن مستوٍ على عرشـه،
فـلا يجب أن يكون لم يـزل مستويًا على عرشه، فكذلك ما قلناه
يناسبه.
فإن قيل: الاستواء منه فعل، ويستحيل أن يكون الفعل لم يزل، قال:
قيل: والخلق منه فعل، ويستحيل أن يكون الخلق لم يزل.
فهذا الكلام ليس إلا ببيان الذين يقولون: إنه استوي على العرش بعد
أن لم يكن، ويقولون بقدم صفة التكوين والخلق، وأنه لم يزل خالقًا،
فألزمهم: أنا نقول في الخلق ما نقوله نحن وأنتم في
الاستواء.
وهذا جواب ضعيف من وجوه: أحدها: أنه في الحقيقة ليس عنده أنه
استوي بعد أن لم يكن، كما قد بحثه مع السلطان، بل هو الآن كما كان،
فلا يصح القياس عليه.
الثاني: أنه قد سلم أنه لم يزل قادرًا على أن يخلق الخلق، وهذا
يقتضي إمكان وجود المقدور في الأزل، فإنه إذا كان المقدور ممتنعًا لم
تكن هناك قدرة، فكيف يجعله لم يزل قادرًا مع امتناع أن يكون المقدور
لم يزل ممكنًا؟ بل المقدور عنده كان ممتنعًا ثم صار ممكنًا بلا سبب
حادث اقتضي ذلك.
الثالث: أن قوله: لأن معني الخلق أنه لم يكن ثم كان، فكيف يكون
ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا؟ فيقال: بل كل مخلوق فهو محدث
مسبوق بعدم نفسه، وما ثم قديم أزلي إلا اللّه وحده.وإذا قيل:لم
يزل خالقًا، فإنما يقتضي قدم نوع الخلق، و[دوام خالقيته] لا يقتضي
قدم شيء من المخلوقات، فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن
لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل إن منها شيئًا أزليًا، ومن قال بقدم شيء
من العالم كالفلك أو مادته فإنه يجعله مخلوقا بمعني أنه كان بعد أن لم
يكن، ولكن إذ أوجده القديم.
ولكن لم يزل فعالًا خالقًا، ودوام خالقيته من لوازم وجوده.
فهذا ليس قولا بقدم شيء من المخلوقات، بل هذا متضمن لحدوث كل ما
سواه.
وهذا مقتضي سؤال السائل له.
الوجه الرابع: أن يقال: العرش حادث، كائن بعد أن لم يكن، لم يزل
مستويًا عليه بعد وجوده، وأما الخلق: فالكلام في نوعه، ودليله على
امتناع حوادث لا أول لها، قد عرف ضعفه.
وكان ابن فُورَك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكَرَّامية، كما
قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كَفَّرَهم عند
السلطان، ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد،
بل ابتدع بدعة وعادي من خالفه فيها أو كَفَّره، فإنه هو ظلم
نفسه.
وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق؛ يتبعون
الرسول فلا يبتدعون.
ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع مثل
الخوارج يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كل منهم
يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع، فيرد بدعة ببدعة، وباطلاً
بباطل.
وكذلك ما حكاه من مناظراتهم له عند الوزير، مجلسًا بعد مجلس هو من
هذا الباب. فإن المعتزلة والكَرَّامِية يقولون حقًا وباطلا، وسنة
وبدعة، كما أنه هو أيضًا كذلك يقول حقًا وباطلا موافقة لأبي الحسن،
وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء، والأحكام، والقدر، مسلك الجهم بن
صفوان، مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة، فهؤلاء قدرية مجبرة،
والمعتزلة قدرية نافية، فوقع بينهم غاية التضاد في مسائل التعديل
والتجويز ونحوها.
واللّه يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم .
وقد حرم سبحانه الكلام بلا علم مطلقًا، وخص القول عليه بلا علم
بالنهي، فقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}
[الإسراء: 36]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
وأمر بالعدل على أعداء المسلمين، فقال: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء
بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
[المائدة: 8].
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية