الإجابة
وهو سبحانه وصف نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم؛
لأنه من صفات الكمال،كما مدح نفسه بأنه العظيم،والعليم،والقدير،
والعزيز، والحليم، ونحو ذلك.
وأنه الحي القيوم، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسني،فلا يجوز أن يتصف
بأضداد هذه.
فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة، مثل الموت
والنوم والجهل والعجز واللُّغُوب.
ولا بضد العزة وهو الذل، ولا بضد الحكمة وهو السفه.
فكذلك، لا يوصف بضد العلو وهو السفول، ولا بضد العظيم وهو الحقير،
بل هو سبحانه منزه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له،
فثبوت صفات الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها، وهي النقائص.
وهو سبحانه ليس كمثله شيء فيما يوصف به من صفات الكمال.
فهو منزه عن النقص المضاد لكماله، ومنزه عن أن يكون له مثل في شيء
من صفاته، ومعاني التنزيه ترجع إلى هذين الأصلين، وقد دل عليهما سورة
الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن بقوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ
الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1- 2]، فاسمه [الصمد]:
يجمع معاني صفات الكمال، كما قد بسط ذلك في تفسير هذه السورة وفي غير
موضع، وهو كما في تفسير ابن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ أنه المستوجب
لصفات السؤدد، العليم الذي قد كمل في علمه، الحكيم الذي قد كمل في
حكمته، إلى غير ذلك مما قد بين.
وقوله: [الأحد] يقتضي أنه لا مثل له ولا نظير {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
وقد ذكرنا في غير موضع أن ما وصف اللّه تعالى به نفسه من الصفات
السلبية، فلا بد أن يتضمن معني ثبوتيا، فالكمال هو في الوجود
والثبوت،والنفي مقصودة نفي ما يناقض ذلك، فإذا نفي النقيض الذي هو
العدم والسلب لزم ثبوت النقيض الآخر الذي هو الوجود والثبوت.
وبينا هذا في آية الكرسي وغيرها مما في القرآن، كقوله:{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ
نَوْمٌ}، فإنه يتضمن كمال الحياة والقيومية.
وقوله:{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255]، يتضمن كمال
الملك.
وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة:
255]، يقتضي اختصاصه بالتعليم دون ما سواه.
والوحدانية: تقتضي الكمال، والشركة: تقتضي النقص.
وكذلك قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ
حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]، {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ}
[ق: 38]، {لاَّ تُدْرِكُهُ
الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ
ذَرَّةٍ} [سبأ: 3].
وأمثال ذلك مما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن علوه من صفات المدح اللازمة له. فلا يجوز اتصافه
بضد العلو البتة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح ، ولم يقل: [تحتك]، وقد تكلمنا على هذا
الحديث في غير هذا الموضع.
وإذا كان كذلك، فالمخالفون للكتاب والسنة وما كان عليه السلف لا
يجعلونه متصفا بالعلو دون السفول، بل إما أن يصفوه بالعلو والسفول أو
بما يستلزم ذلك، وإما أن ينفوا عنه العلو والسفول.
وهم نوعان.
فالجهمية القائلون بأنه بذاته في كل مكان، أو بأنه لا داخل العالم
ولا خارجه، لا يصفونه بالعلو دون السفول.
فإنه إذا كان في مكان فالأمكنة منها عال وسافل، فهو في العالي عال،
وفي السافل سافل. بل إذا قالوا: إنه في كل مكان.
فجعلوا الأمكنة كلها محال له، ظروفا وأوعية، جعلوها في الحقيقة أعلى
منه.
فإن المحل يحوي الحال، والظرف والوعاء يحوي المظروف الذي فيه،
والحاوي فوق المحوي.
والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا: إنه فوق العرش،
وإنه في السماء فوق كل شيء، لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره،
أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاءً سبحانه وتعالى عن ذلك بل هو فوق كل
شيء، وهو مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه.
وهو عال على كل شيء، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته
وقدرته.
وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق.
وما في الكتاب والسنة من قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}
[الملك: 16]، ونحو ذلك قد يفهم منه بعضهم أن [السماء] هي
نفس المخلوق العالي؛ العرش فما دونه، فيقولون: قوله {فٌي بسَّمّاء
}، بمعنى: [على السماء]، كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ} [طه: 71]، أي: [على جذوع النخل]، وكما
قال: {فَسِيرُواْ فِي
الأَرْضِ} [النحل: 36]، أي: [على الأرض].
ولا حاجة إلى هذا، بل، [السماء] اسم جنس للعالي لا يخص شيئا.
فقوله: {فٌي السَّمّاء }، أي: (في العلو دون
السفل).
وهو العلى الأعلى، فله أعلى العلو، وهو ما فوق العرش وليس هناك غيره
العلى الأعلى سبحانه وتعالى.
والقائلون بأنه في كل مكان هو عندهم في المخلوقات السفلية القذرة
الخبيثة، كما هو في المخلوقات العالية.
وغلاة هؤلاء الاتحادية الذين يقولون: [الوجود واحد]، كابن
عربي الطائي صاحب [فصوص الحكم]، و[الفتوحات المكية]،
يقولون: الموجود الواجب القديم هو الموجود المحدث الممكن.
ولهذا قال ابن عربي في [فصوص الحكم]:
[ومن أسمائه الحسني [العلي]. على من، وما ثم إلا هو؟ وعن
ماذا، وما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين
الموجودات، فالمُسَمَّي [محدثات]: هي العلية لذاتها وليست إلا
هو].
إلي أن قال:
[فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الأوصاف الوجودية والنسب
العدمية، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا، أو مذمومة عرفا وعقلًا
وشرعا. وليس ذلك إلا المسمي اللّه].
فهو عنده الموصوف بكل ذم، كما هو الموصوف بكل مدح.
وهؤلاء يفضلون عليه بعض المخلوقات، فإن في المخلوقات ما يوصف بالعلو
دون السفول كالسماوات. وما كان موصوفا بالعلو دون السفول كان أفضل
مما لا يوصف بالعلو، أو يوصف بالعلو والسفول.
وقد قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى} [النازعات: 24].
قال ابن عربي:
ولما كان فرعون في منصب التحكم والخليفة بالسيف، جاز في العرف
الناموسي أن قال: {أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى} [النازعات:24]، أي: وإن كان أن الكل
أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم.
ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، بل أقروا له بذلك
وقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنتَ
قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}
[طه: 72] فالدولة لك.
فصح قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى} [النازعات: 24].
فبهـذا وأمثاله يصححون قـول فرعـون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}،
وينكـرون أن يكون اللّه عاليا، فضلا عن أن يكون هو الأعلى، ويقولون:
على من يكون أعلي، أو: عما ذا يكون أعلي؟ وهكذا سائر الجهمية
يصفون بالعلو على وجه المدح ما هو عال من المخلوقات، كالسماء، والجنة،
والكواكب، ونحو ذلك.
ويعلمون أن العالي أفضل من السافل، وهم لا يصفون ربهم بأنه الأعلى،
ولا العلي، بل يجعلونه في السافلات كما هو في العاليات.
والجهمية الذين يقولون: ليس هو داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار
إليه البتة، هم أقرب إلى التعطيل والعدم، كما أن أولئك أقرب إلى
الحلول والاتحاد بالمخلوقات.
فهؤلاء يثبتون موجودًا لكنه في الحقيقة المخلوق لا الخالق، وأولئك
ينفون فلا يثبتون وجودًا البتة، لكنهم يثبتون وجود المخلوقات،
ويقولون: إنهم يثبتون وجود الخالق.
وإذا قالوا: نحن نقول: هو عال بالقدرة أو بالقدر، قيل: هذا
فرع ثبوت ذاته وأنتم لم تثبتوا موجودًا يعرف وجوده فضلا عن أن يكون
قادرًا أو عظيم القدر.
وإذا قالوا: كان اللّه قبل خلق الأمكنة والمخلوقات موجودًا، وهو
الآن على ما عليه كان لم يتغير، ولم يكن هناك فوق شيء ولا عاليًا على
شيء فذلك هو الآن، قيل: هذا غلط، ويظهر فساده بالمعارضة ثم بالحل
وبيان فساده.
أما الأول: فيلزمهم ألا يكون الآن عاليًا بالقدرة ولا بالقدر كما
كان في الأزل.
فإنه إذا قدر وجوده وحده فليس هناك موجود يكون قادرًا عليه ولا
قاهرًا له ولا مستوليًا عليه، ولا موجودا يكون هو أعظم قدرًا
منه.
فإن كان مع وجود المخلوقات لم يتجدد له علو عليها كما زعموا، فيجب
أن يكون بعدها ليس قاهرًا لشيء ولا مستوليًا عليه، ولا قاهرًا لعباده،
ولا قدره أعظم من قدرها.
وإذا كانوا يقولون هم وجميع العقلاء إنه مع وجود المخلوق يوصف
بأمور إضافية لا يوصف بها إذا قدر موجودًا وحده علم أن التسوية بين
الحالين خطأ منهم.
وقد اتفق العقلاء على جواز تجدد النسب والإضافات مثل المعية، وإنما
النزاع في تجدد ما يقوم بذاته من الأمور الاختيارية.
وقد بين في غير هذا الموضع أن النسب والإضافات مستلزمة لأمور
ثبوتية، وأن وجودها بدون الأمور الثبوتية ممتنع.
والإنسان إذا كان جالسًا فتحول المتحول عن يمينه بعد أن كان عن شماله
قيل: إنه عن شماله.
فقد تجدد من هذا فعل به تغيرت النسبة والإضافة،.
وكذلك من كان تحت السطح فصار فوقه، فإن النسبة بالتحتية والفوقية
تجدد لما تجدد فعل هذا.
وإذا قيـل: نفس السقف لم يتغـير قيل: قـد يمنع هـذا، ويقال:
ليس حكمـه إذا لم يكن فوقـه شيء كحكمـه إذا كـان فوقـه شيء.
وإذا قيل عن الجالس: إنه لم يتغير، قيل: قد يمنع هـذا،
ويقال: ليس حكمـه إذا كـان الشخص عـن يساره كحكمه إذا كان عن يمينه،
فإنـه يحجب هـذا الجانب ويـوجب مـن التفات الشخص وغـير ذلك مـا لم يكن
قبل ذلك.
وكذلك من تجدد له أخ أو ابن أخ بإيلاد أبيه أو أخيه، قد وجد هنا أمور
ثبوتية.
وهذا الشخص يصير فيه من العطف والحنو على هذا الولد المتجدد ما لم
يكن قبل ذلك، وهي الرحم والقرابة.
وبهذا يظهر الجواب الثاني، وهو أن يقال:
العلو والسفول ونحو ذلك من الصفات المستلزمة للإضافة، وكذلك الاستواء،
والربوبية، والخالقية، ونحو ذلك.
فإذا كان غيره موجودًا، فإما أن يكون عاليًا عليه وإما ألا يكون،
كما يقولون هم: إما أن يكون عاليًا عليه بالقهر أو بالقدر أو لا
يكون، خلاف ما إذا قدر وحده، فإنهم لا يقولون: إنه حينئذ قاهر، أو
قادر أو مستول عليه، فلا يقال: إنه عال عليه.
وإن قالوا: (إنه قادر وقاهر) كان ذلك مشروطًا بالغير، وكذلك
علو القدر، قيل: وكذلك علو ذاته مازال عاليًا بذاته لكن ظهور ذلك
مشروط بوجود الغير.
والإلزامات مفحمة لهم.
وحقيقة قولهم: إنه لم يكن قادرًا في الأزل ثم صار قادرًا.
يقولون: لم يزل قادرًا مع امتناع المقدور، وإنه لم يكن الفعل
ممكنًا فصار ممكنا.
فيجمعون بين النقيضين.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية