الإجابة
وأما الذين يصفونه بالعلو والسفول، فالذين يقولون: هو فوق العرش وهو
أيضًا في كل مكان، والذين يقولون: إذا نزل كل ليلة فإنه يخلو منه
العرش، أو غيره من المخلوقات أكبر منه، ويقولون: لا يمتنع أن يكون
الخالق أصغر من المخلوق، كما يقول شيوخهم: إنه لا يمتنع أن يكون
الخالق أسفل من المخلوق، فهؤلاء لا يصفونه بأنه أكبر من كل شيء، بل
ولا هو على قولهم الكبير المتعال، ولا هو العلى العظيم.
وقد بسط الرد على هؤلاء في (مسألة النزول) لما ذكر قول أئمة
السنة مثل حماد بن زيد [هو أبو إسماعيل حماد بن درهم الأزدي
الجهضمي، شيخ العراق في عصره، من حفاظ الحديث الموجودين، يعرف
بالأزرق، أصله من سبي سجستان، مولده ووفاته في البصرة، يحفظ أربعة
آلاف حديث.
خرج حديثه الأئمة الستة]، وإسحق بن راهويه، وغيرهما: (إنه
ينزل ولا يخلو منه العرش) ذكر قول من أنكر ذلك من المتأخرين
المنتسبين إلى الحديث والسنة، وبَين فساد قولهم شرعا وعقلًا.
وهؤلاء في مقابلة الذين ينفون النزول.
وإذا قيـل: حـديث النزول ونحـوه ظاهـره ليس يحتمـل التأويـل، فهـذا
صحيـح إذا أريـد بالظاهـر ما يظهر لهؤلاء ونحوهم، من أنه ينزل إلى
أسفل فيصير تحت العرش كما يـنزل الإنسـان مــن سطـح داره إلى أسـفـل
وعلى قــول هـؤلاء ولا يبقي حينئـذ العلى ولا الأعلى، بل يكـون تـارة
أعلى وتـارة أسفل تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وكذلك ما ورد من نزوله يوم القيامة في ظلل من الغمام، ومن نزوله
إلى الأرض لما خلقها، ومن نزوله لتكليم موسي، وغير ذلك، كله من باب
واحد، كقوله تعالى: {هَلْ
يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ
الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله:
{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا} [الفجر: 22]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ
الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ
رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}
[الأنعام: 158].
والنفاة المعطلة ينفون المجيء والإتيان بالكلية، ويقولون: ما ثَمَّ
إلا ما يحدث في المخلوقات، والحلولية يقولون: إنه يأتي ويجيء بحيث
يخلو منه مكان ويشغل آخر، فيخلو منه ما فوق العرش ويصير بعض المخلوقات
فوقه.
فإذا أتي وجاء لم يصر على قولهم العلى الأعلى، ولا كان هو العلى
العظيم، لا سيما إذا قالوا: إنه يحويه بعض المخلوقات فتكون أكبر منه
سبحانه وتعالى عما يقول هؤلاء وهؤلاء علوًا عظيما.
وكذلك قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي
السَّمَاء} [الملك: 16]، إن كان قد قال أحد: إنه في
جوف السماء فهو شرٌ قولا من هؤلاء، ولكن هذا ما علمت به قائلًا معينًا
منسوبا إلى علم حتى أحيكه قولا.
ومن قال: إنه في السماء فمراده أنه في العلو، ليس مراده أنه في جوف
الأفلاك، إلا أن بعض الجهال يتوهم ذلك.
وقد ظن طائفة أن هذا ظاهر اللفظ.
الظاهر ولا ريب أنه محمول على خلاف هذا الاتفاق؛ لكن هذا هو الذي
يظهر لعامة المسلمين الذين يطلقون هذا القول ويـسمعونه، أو هو مدلول
اللفظ في اللغة، هو مما لا يسلم لهم، كما قد يبسط في مواضع.
وقد قال تعالى: {قُل لَّا
يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا
اللَّهُ} [النمل: 65]، فاستثني نفسه، والعالم {مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
.
ولا يجوز أن يقال: هذا استثناء منقطع؛ لأن المستثني مرفوع، ولو
كان منقطعًا لكان منصوبا.
والمرفوع على البدل، والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو بمنزلة
المفرغ، كأنه قال: (لا يعلم الغيب إلا اللّه).
فيلزم أنه داخل في: {مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وقد قدمنا أن لفظ (السماء) يتناول كل ما سما، ويدخل فيه السموات،
والكرسي، والعرش، وما فوق ذلك؛ لأن هذا في جانب النفي، وهو لم يقل
هنا: السموات السبع، بل عم بلفظ: (السموات).
وإذا كان لفظ (السماء) قد يراد به السحاب، ويراد به الفلك، ويراد
به ما فوق العالم، ويراد به العلو مطلقًا، فـ (السموات): جمع
(سماء)، وكل من فيما يسمي (سماء)، وكل من فيما يسمي
(أرضًا) لا يعلم الغيب إلا اللّه.
وهو سبحانه قال: {قُل لَّا
يَعْلَمُ مَن}، ولم يقل: [ما]، فإنه لما اجتمع ما يعقل
وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه بـ [من] لتكون أبلغ، فإنهم مع
كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا
اللّه.
وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا} [الجن: 26].
والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس
وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه، ليس هو غيبًا عمن شهده. والناس
كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا، فيكون غيبًا مقيدًا، أي: غيبًا
عمن غاب عنه من المخلوقين، لا عمن شهده، ليس غيبًا مطلقًا غاب عن
المخلوقين قاطبة.
وقوله: {عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ} [الزمر: 46]، أي عالم ما غاب عن العباد
مطلقًا ومعينًا وما شهدوه، فهو سبحانه يعلم ذلك كله.
والنفاة للعلو ونحوه من الصفات معترفون بأنه ليس مستندهم خبر
الأنبياء، لا الكتاب، ولا السنة، ولا أقوال السلف، ولا مستندهم فطرة
العقل وضرورته، ولكن يقولون: معنا النظر العقلي.
وأما أهل السنة المثبتون للعلو فيقولون: إن ذلك ثابت بالكتاب
والسنة والإجماع، مع فطرة اللّه التي فطر العباد عليها وضرورة العقل،
ومع نظر العقل واستدلاله.
لكن، الذين يقولون بأنه ينزل ولا يبقي فوق العرش، وأنه يكون في جوف
المخلوقات، ونحو هـؤلاء، قـد يقولون: إن مستندهم في ذلك السمع، وهو
ما فهموه من القرآن، أو من الأحاديث الصحيحة أو غير الصحيحة، أو من
أقوال السلف وهم أخطؤوا من حيث نظروا اقتصروا على فهمه من نص
واحد،كفهمهم من حديث النزول ولم يتدبروا ما في الكتاب والسنة مما يصفه
بالعلو والعظمة ونحو ذلك مما ينافي أن يكون شيء أعلى منه أو أكبر
منه.
ويتدبروا أيضًا دلالة النص، مثل نزوله إلى سماء الدنيا حين يبقي
ثلث الليل الآخر بأن الليل يختلف، فيكون ليل أهل المشرق ونصفه وثلثه
الآخر قبل ذلك في المغرب بقريب من يوم، فيلزم على قولهم أنه لا يزال
تحت العرش، وهو قد أخبر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات
والأرض.
وما ذكروه ينافي استواءه على العرش، وأنه ليس فوق العرش، كما قد
بسط في مواضع.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية