الفتاوى

فصـل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر اللّه بتذكره
فصـل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر اللّه بتذكره

الإجابة



والتذكر اسم جامع لكل ما أمر اللّه بتذكره، كما قال‏:‏ ‏{‏‏أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}‏‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏، أى قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم، وبتعميركم عمرًا يتسع للتذكر‏.

‏‏ وقد أمر سبحانه بذكر نعمه في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏

والمطلوب بذكرها شكرها، كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150 - 152‏]‏‏.

‏ وقـوله‏:‏ ‏{‏‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ}‏‏ يتناول كل من خوطب بالقرآن‏.

‏‏ وكذلك قولـه‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

فالرسول من أنفس من خوطب بهذا الكلام، إذ هى كاف الخطاب‏.

‏‏ ولما خوطب به أولا قريش، ثم العرب، ثم سائر الأمم، صار يخص ويعم بحسب ذلك‏.‏

وفيه ما يخص قريشًا كقوله‏:‏ ‏{‏‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ}‏‏ ‏[‏قريش‏:‏ 1-2‏]‏‏.

‏‏ وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.

‏‏ وفيه ما يعم العرب ويخصهم، كقوله‏:‏ ‏{‏‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}‏‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، والأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب‏.

‏‏ ثم قـال‏:‏ ‏{‏‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}‏‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فهـذا يتناول كـل مـن دخـل في الإســلام بعـد دخـول العـرب فيـه إلى يـوم القيامـة، كما قـال ذلك مقاتـل بـن حيان ‏[‏هو أبو بسطام مقاتل بن حيان النبطى البلخى الخراز، مولى بكر بن وائل، وثقه ابن معين وأبو داود، وقال النسائى‏:‏ ليس به بأس، مات قبل الخمسين ومائة تقريبًا‏]‏، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهما‏.

‏‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ ؛ أى‏:‏ في الدين دون النسب، إذ لو كانوا منهم في النسب لكانوا من الأميين‏.

‏‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏‏.

‏‏ وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال "لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس‏"‏‏‏.

‏‏ فهذا يدل على دخول هؤلاء لا يمنع دخول غيرهم من الأمم‏.

‏‏ وإذا كانوا هم منهم فقد دخلوا في قوله‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، فالمنة على جميع المؤمنين عربهم وعجمهم، سابقهم ولاحقهم والرسول منهم؛ لأنه إنسى مؤمن‏.

‏‏ وهو من العرب أخص؛ لكونه عربيا جاء بلسانهم، وهو من قريش أخص‏.

‏‏ والخصوص يوجب قيام الحجة، لا يوجب الفضل، إلا بالإيمان والتقوى لقوله‏:‏‏{‏‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ولهذا كان الأنصار أفضل من الطلقاء من قريش، وهم ليسوا من ربيعة ولا مضر، بل من قحطان‏.

‏‏ وأكثر الناس على أنهم من ولد هود، ليسوا من ولد إبراهيم‏.

‏‏ وقيل‏:‏ إنهم من ولد إسماعيل؛ لحديث أسلم لما قال "ارموا، فإن أباكم كان راميًا"‏‏، وأسلم من خزاعة، وخزاعة من ولد إبراهيم‏.‏

وفي هذا كلام ليس هذا موضعه؛ إذ المقصود أن الأنصار أبعد نسبا من كل ربيعة ومضر مع كثرة هذه القبائل‏.

‏‏ ومع هذا هم أفضل من جمهور قريش، إلا من السابقين الأولين من المهاجرين وفيهم قرشي وغير قرشي‏.

‏‏ ومجموع السابقين ألف وأربعمائة غير مهاجرى الحبشة‏.‏

فقـوله‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ جَاءكُمْ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ يخص قريشًا، والعـرب، ثم يعـم سـائر البشر؛ لأن القرآن خطاب لهـم‏.‏

والرسـول مـن أنفسهم، والمعنى ليس بملك لا يطيقون الأخذ منـه، ولا جني‏.

‏‏ ثم يعم الجن؛ لأن الرسول أرسل إلى الإنس والجن، والقرآن خطاب للثقلين، والرسول منهم جميعًا، كما قال‏:‏ ‏{‏‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، فجعل الرسل التي أرسلها من النوعين مع أنهم من الإنس‏.

‏‏ فإن الإنس والجن مشتركون مع كونهم أحياء ناطقين مأمورين منهيين فإنهم يأكلون ويشربون، وينكحون وينسلون، ويغتذون وينمون بالأكل والشرب‏.

‏‏ وهذه الأمور مشتركة بينهم‏.‏

ووهم يتميزون بها عن الملائكة، فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولا تنكح ولا تنسل‏.‏

فصار الرسول مع أنفس الثقلين، باعتبار القدر المشترك بينهم الذي تميزوا به عن الملائكة، حتى كان الرسول مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏} ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، هو كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ}‏‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 231‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 151‏]‏‏.

‏‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏، والمقصود أنه أمر بذكر النعم وشكرها‏.‏

وقال‏:‏‏{‏‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏} ‏[‏البقرة‏:‏40‏]‏ في غير موضع وقال للمؤمنين‏:‏ ‏{‏‏وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏، فذكر النعم من الذكر الذي أمروا به‏.

‏‏ ومما أمروا به تذكرة قصص الأنبياء المتقدمين، كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ‏} ‏[‏مريم‏:‏ 41‏]‏، ‏{‏‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ موسى‏} ‏[‏مريم‏:‏ 51‏]‏، ‏{‏‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}‏‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏، ‏{‏‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}‏‏ ‏[‏مريم‏:‏ 56‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ}‏‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏، ‏{‏‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ}‏‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، ‏{‏‏وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَّ‏} ‏[‏ص‏:‏ 48‏]‏‏.

‏‏ ومما أمروا به تذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب‏.

‏‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}‏‏ ‏[‏ص‏:‏ 46‏]‏‏.‏

ومما أمروا بتذكره آيات اللّه التي يستدلون بها على قدرته وعلى المعاد، كقوله‏:‏ {‏‏وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}‏‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66- 67‏]‏‏.‏

وقد قال لموسى‏:‏ ‏{‏‏وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ}‏‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏، وهى تتناول أيام نعمه وأيام نقمه ليشكروا ويعتبروا‏.

‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}‏‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فإن ذكر النعم يدعو إلى الشكر، وذكر النقم يقتضى الصبر على فعل المأمور وإن كرهته النفس، وعن المحظور وإن أحبته النفس؛ لئلا يصيبه ما أصاب غيره من النقمة‏.‏



___________________

المجلد السادس عشر

مجموع الفتاوي لابن تيمية

Icon