الإجابة
قال الله تعالي: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} إلى قوله:
{ققُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ} [النور: 27 ـ 30]، وقد ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال .
والنظر المنهي عنه هو نظر العورات ونظر الشهوات وإن لم تكن من
العورات.
والله سبحانه ذكر الاستئذان على نوعين: ذكر في هذه الآية أحدهما،
وفي الآيتين في آخر السورة النوع الثاني، وهو استئذان الصغار
والمماليك، كما قال تعالي: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم
مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ
لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ} [النور: 58]، فأمر باستئذان الصغار
والمماليك حين الاستيقاظ من النوم، وحين إرادة النوم ، وحين القائلة
[وقت القيلولة]؛ فإن في هذه الأوقات تبدو العورات، كما قال
تعالي: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ
لَّكُمْ} .
وفي ذلك ما يدل على أن المملوك المميِّز، والمميز من الصبيان:
ليس له أن ينظر إلى عورة الرجل، كما لا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة
الصبي والمملوك وغيرهما.
وأما دخول هؤلاء في غير هذه الأوقات بغير استئذان، فهو مأخوذ من
قوله تعالي: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم
بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58]، وفي ذلك دلالة
على أن الطوافين يرخص فيهم ما لا يرخص في غير الطوافين عليكم
والطوافات، والطواف من يدخل بغير إذن كما تدخل الهرة، وكما يدخل الصبي
والمملوك، وإذا كان هذا في الصبي المميز فغير المميز أولي.
ويرخص في طهارته، كما قال ذلك طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم
في الصبيان والهرة وغيرهم: أنهم إن أصابتهم نجاسة أنها تطهر بمرور
الريق عليها، ولا تحتاج إلى غسل؛ لأنهم من الطوافين، كما أخبر به
الرسول في الهرة مع علمه أنها تأكل الفأرة، ولم تكن بالمدينة مياه
تردها السنانير [السنانير: الهر، والأنثي سنورة]، ليقال: طهر
فمها بورودها الماء، فعلم أن طهارة هذه الأفواه لا تحتاج إلى غسل،
فالاستئذان في أول السورة قبل دخول البيت مطلقًا، والتفريق في آخرها
لأجل الحاجة، لأن المملوك والصغير طواف يحتاج إلى دخول البيت في كل
ساعة فشق استئذانه، بخلاف المحتلم.
وقال تعالي: {قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى} الآية، إلى قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30-
31]، فأمر الله سبحانه الرجال والنساء بالغض من البصر وحفظ الفرج،
كما أمرهم جميعًا بالتوبة، وأمر النساء خصوصًا بالاستتار، وألاَّ
يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ومن استثناه الله تعالي في الآية، فما ظهر
من الزينة هو الثياب الظاهرة، فهذا لا جناح عليها في إبدائها إذا لم
يكن في ذلك محذور آخر، فإن هذه لابد من إبدائها، وهذا قول ابن مسعود
وغيره، وهو المشهور عن أحمد.
وقال ابن عباس: الوجه واليدين من الزينة الظاهرة، وهي الرواية
الثانية عن أحمد، وهو قول طائفة من العلماء كالشافعي وغيره.
وأمر سبحانه النساء بإرخاء الجلابيب لئلا يعرفن ولا يؤذين، وهذا دليل
على القول الأول، وقد ذكر عبيدة السلماني [هو عبيدة بن عمرو
السلماني المرادي الكوفي، الفقيه، أسلم في عام فتح مكة بأرض إلى من،
ولا صحبة له، برع في الفقه وكان ثبتًا في الحديث، وهاجر إلى المدينة
في زمان عمر.
وحضر كثيرًا من الوقائع، وكان يوازي شريحًا في القضاء توفي في سنة
72هـ] وغيره: أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق
رؤوسهن حتي لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق، وثبت في الصحيح:
أن المرأة المُحْرِمة تنهي عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على
أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك
يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.
وقد نهي الله تعالي عما يوجب العلم بالزينة الخفية بالسمع أو غيره،
فقال: {وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}
[النور: 31]، وقال:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ} فلما نزل ذلك عمد نساء المؤمنين إلى خمرهن
فشققنهن وأرخينها على أعناقهن.
و [الجيب]: هو شق في طول القميص.
فإذا ضربت المرأة بالخمار على الجيب سترت عنقها، وأمرت بعد ذلك أن
ترخي من جلبابها، والإرخاء إنما يكون إذا خرجت من البيت، فأما إذا
كانت في البيت فلا تؤمر بذلك، وقد ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما دخل بصفية قال أصحابه: إن أرخي عليها الحجاب فهي من
أمهات المؤمنين، وإن لم يضرب عليها الحجاب فهي مما ملكت يمينه، فضرب
عليه الحجاب، وإنما ضرب الحجاب على النساء لئلا تري وجوههن
وأيديهن.
والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أن الحرة تحتجب والأمة تبرز، وكان
عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة مختمرة ضربها، وقال أتتشبهين بالحرائر،
أي لَكاعَ [اللكاع: المرأة اللئيمة]، فيظهر من الأمة رأسها
ويداها ووجهها.
وقال تعالي: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ
النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ
جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ
وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} [النور: 60]،
فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها
جلبابها ولا تحتجب، وإن كانت مستثنة من الحرائر لزوال المفسدة
الموجودة في غيرها، كما استثني التابعين غير أولي الإربة من الرجال في
إظهار الزينة لهم، لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة، وكذلك الأمة
إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب، ووجب
غض البصر عنها ومنها.
وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء ولا ترك احتجابهن
وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر، والسنة فرقت
بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل
كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثني القرآن
من النساء الحرائر القواعد فلم يجعل عليهن احتجابًا، واستثني بعض
الرجال وهم غير أولي الإربة، فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم،
لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأن يستثني بعض الإماء أولي وأحري، وهن
من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها.
وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف، لم يجز
إبداء الزينة الخفية له،فالخطاب خرج عاما على العادة، فما خرج عن
العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إلى ها فتنة
وجب المنع من ذلك، كما لو كانت في غير ذلك، وهكذا الرجل مع الرجال
والمرأة مع النساء،لو كان في المرأة فتنة للنساء وفي الرجل فتنة
للرجال؛ لكان الأمر بالغض للناظر من بصره متوجهًا،كما يتوجه إلى الأمر
بحفظ فرجه، فالإماء والصبيان إذا كن حسانًا تختشي الفتنة بالنظر إلى
هم كان حكمهم كذلك،كما ذكر ذلك العلماء.
قـال المروزي : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل : الرجـل
ينظـر إلى المملـوك، قال: إذا خـاف الفتنـة لم ينظـر إليه، كم نظرة
ألقت في قلب صاحبها البلاء، وقـال المروزي: قلت لأبي عبد الله:
رجـل تاب، وقال: لو ضُرِب ظهري بالسياط ما دخلت في معصيـة إلا أنـه
لا يـدع النظـر، فقال: أي توبة هذه؟! قال جرير: سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عـن نـظـرة الفجـأة فقـال ، وقـال ابن أبي
الـدنيا: حـدثني أبي وسـويد قـالا: حـدثني إبراهيم بن هِـَراسة،
عن عثمان بن صالح، عن الحسن بن ذكـوان، قال: لا تجالسـوا أولاد
الأغنياء، فـإن لهم صـورًا كصور النساء، وهم أشـد فتنـة من
العذاري.
وهذا الاستدلال والقياس والتنبيه بالأدني على الأعلي، وكان يقال
: لا يبيت الرجل في بيت مع الغلام الأمرد، وقال ابن أبي الدنيا
بإسناده عن أبي سهل الصعلوكي، قال: سيكون في هذه الأمة قوم يقال
لهم: اللوطيون على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف
يعملون ذلك العمل، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون مجالسة
الأغنياء وأبناء الملوك، وقال: مجالستهم فتنة إنما هم بمنزلة
النساء.
ووقفت جارية لم ير أحسن وجهًا منها على بشر الحافي فسألته عن باب
حرب، فدلها، ثم وقف عليه غلام حسن الوجه فسأله عن باب حرب، فأطرق
رأسه، فرد عليه الغلام السؤال فغمض عينيه، فقيل له: يا أبا نصر،
جاءتك جارية فسألتك فأجبتها، وجاءك هذا الغلام فسألك فلم تكلمه،
فقال: نعم. يروي عن سفيان الثوري أنه قال: مع الجارية شيطان،
ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسي شيطانيه.
وروي أبو الشيخ القزويني بإسناده عن بشر أنه قال: احذروا هؤلاء
الأحداث، وقال فتح الموصلي: صحبت ثلاثين شيخًا كانوا يعدون من
الأبدال كلهم أوصاني عند مفارقتي له: اتق صحبة الأحداث ، اتق معاشرة
الأحداث.
وكان سفيان الثوري لا يدع أمرد يجالسه، وكان مالك بن أنس يمنع دخول
المرد مجلسه للسماع، فاحتال هشام فدخل في غمار الناس مستترًا بهم وهو
أمرد فسمع منه ستة عشر حديثًا، فأخبر بذلك مالك فضربه ستة عشر سوطًا،
فقال هشام: ليتني سمعت مائة حديث وضربني مائة سوط، وكان يقول: هذا
علم إنما أخذناه عن ذوي اللحي والشيوخ فلا يحمله عنا إلا أمثالهم،
وقال يحيي بن معين: ما طمع أمرد أن يصحبني ولا أحمد بن حنبل في
طريق.
وقال أبو على الروذباري [هو أبو على أحمد بن محمد بن القاسم بن
منصور الروذباري، الزاهد المشهور الشافعي، كان فقيهًا نحويا حافظًا
للأحاديث عارفًا بالطريقة، له تصانيف كثيرة، وأصله من بغداد، وسكن
بمصر وصحب الجنيد حتي صار أحد أئمة الوقت وشيخ الصوفية، توفي بمصر سنة
322هـ]: قال لي أبو العباس أحمد بن المؤدب: يا أبا علي، من أين
أخذ صوفية عصرنا هذا الأنس بالأحداث وقد تصحبهم السلامة في كثير من
الأمور؟ فقال: هيهات قد رأينا من هو أقوي منهم إيمانًا إذا رأي
الحدث قد أقبل نفر منه كفراره من الأسد، وإنما ذاك على حسب الأوقات
التي تغلب الأحوال على أهلها فيأخذها تصرف الطباع، ما أكثر الخطأ، ما
أكثر الغلط! قال الجنيد بن محمد: جاء رجل إلى أحمد بن حنبل معه
غلام أمرد حسن الوجه، فقال له: من هذا الفتي؟! فقال الرجل:
ابني، فقال: لا تجئ به معك مرة أخري، فلامه بعض أصحابه في ذلك، فقال
أحمد: على هذا رأينا أشياخنا، وبه أخبرونا عن أسلافهم.
وجاء حسن بن الرازي إلى أحمد ومعـه غلام حسـن الوجـه، فتحدث معه
ساعـة، فلما أراد أن ينصرف قـال لـه أحمد: يا أبا علي، لا تمش مع
هذا الغلام في طريق، فقال: يا أبا عبد الله، إنـه ابن أختي، قال:
وإن كـان لا يأثم الناس فيك، وروي ابن الجوزي بإسناده عـن سعـيد بن
المسُيـب قال: إذا رأيتم الرجل يلح بالنظر إلى الغلام الأمرد
فاتهمـوه، وقـد روي في ذلك أحـاديث مسـندة ضعيفـة، وحديث مرسل أجود
منها، وهو مـا رواه أبو محمـد الخلال، ثنا عمر بن شاهين، ثنا محمد بن
أبي سعيد المقري، ثنا أحمـد بن حماد المصيصي، ثنا عباس بن مجوز، ثنا
أبو أسامة، عن مُجَالد، عن سعيد، عن الشعبي قال: قدم وفد عبد القيس
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة،
فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم وراء ظهره، وقال هذا حديث
منكر.
وأما المسندة فمنها ما رواه ابن الجوزي بإسناده عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ،
وروي الخطيب البغدادي بإسناده عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال ، إلى
غير ذلك من الأحاديث الضعيفة.
وكذلك المرأة مع المرأة، وكذلك محارم المرأة: مثل ابن زوجها
وابنه وابن أخيها وابن أختها ومملوكها عند من يجعله محرمًا: متي كان
يخاف عليه الفتنة أو عليها توجه الاحتجاب بل وجب.
وهذه المواضع التي أمر الله تعالي الاحتجاب فيها مظنة الفتنة، ولهذا
قال تعالي: {ذَلِكَ أَزْكَى
لَهُمْ} [النور: 30] فقد تحصل الزكاة والطهارة بدون ذلك
لكن هذا أزكي، وإذا كان النظر والبروز قد انتفي فيه الزكاة والطهارة
لما يوجد في ذلك من شهوة القلب واللذة بالنظر، كان ترك النظر
والاحتجاب أولي بالوجوب، ولا زكاة بدون حفظ الفرج من الفاحشة، لأن
حفظه يتضمن حفظه عن الوطء به في الفروج والأدبار ودون ذلك، وعن
المباشرة ومس الغير له وكشفه للغير ونظر الغير إليه، فعليه أن يحفظ
فرجه عن نظر الغير ومسه.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده
لما قال له .
وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تباشر المرأةُ المرأةَ في
شعار واحد، وأن يباشر الرجلُ الرجلَ في شعار واحد.
ونهي عن المشي عراة.
ونهي عن أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وأن تنظر المرأة إلى عورة
المرأة.
وقال .
وفي رواية .
وقـال العلماء: يرخص للنساء في الحمام عنـد الحاجة، كما يرخص
للرجال مع غض البصر وحفظ الفرج، وذلك مثل أن تكون مريضة أو نفساء، أو
عليها غسل لا يمكنها إلا في الحمام.
وأما إذا اعتادت الحمام وشق عليها تركه فهل يباح لها؟ على قولين في
مذهب أحمد وغيره: أحدهما: لا يباح، والثاني: يباح، وهو مذهب أبي
حنيفة واختاره ابن الجوزي.
وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى
المحرمات فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس، فبيت الرجل يستر بدنه كما
تستره ثيابه، وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان،
وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين في
قوله تعالي: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم
مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم
بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، فكل منهما وقاية من الأذى
الذي يكون سمومًا مؤذيا كالحر والشمس والبرد، وما يكون من بني آدم من
النظر بالعين واليد وغير ذلك.
وقد ذكر في أول (سورة النحل) أصول النِّعم، وذكر هنا ما يدفع
البرد فإنه من المهلكات، وذكر في أثنائها تمام النِّعم وما يدفع الحر
فإنه من المؤذيات، ثم قال: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]، وفي الصحيحين عن
أبي هريرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .
وهذا الخاص يفسر العام الذي في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل:
أنه رأي رجلاً يخذف، قال: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهي عن الخذف، وقال .
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد: أن رجلاً اطلع في حجرة في باب النبي
صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدري يحك بها رأسه،
فقال .
وقد ظن طائفة من العلماء أن هذا من باب دفع الصائل؛ لأن الناظر معتد
بنظره فيدفع كما يدفع سائر البغاة، ولو كان الأمر كما قالوا؛ لدفع
بالأسهل فالأسهل.
ولم يجز قلع عينه ابتداء إذا لم يذهب إلا بذلك، والنصوص تخالف ذلك؛
فإنه أباح أن تخذفه حتي تفقأ عينه قبل أمره بالانصراف، وكذلك قوله
، فجعل نفس النظر مبيحًا للطعن في العين، ولم يذكر
الأمر له بالانصراف، وهذا يدل على أنه من باب المعاقبة له على ذلك،
حيث جني هذه الجناية على حرمة صاحب البيت فله أن يفقأ عينه بالحصا
والمدري.
والنظر إلى العورات حرام ، داخل في قوله تعالي:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] ، وفي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ}
[الأنعام: 151] ، فإن الفواحش وإن كانت ظاهـرة في المباشرة
بالفرج أو الدبر وما يتبع ذلك مـن الملامسة والنظـر وغير ذلك، وكما في
قصة لوط:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ}
[الأعراف: 80]، {أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54]،
وقوله: {تَقْرَبُواْ الزِّنَى
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، فالفاحشة
أيضًا تتناول كشف العورة وإن لم يكن في ذلك مباشرة، كما قال تعالي:
{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً
قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا} [الأعراف:
28]، وهذه الفاحشة هي طوافهم بالبيت عراة ، وكانوا يقولون : لا
نطوف بثياب عصينا الله فيها، إلا الحُمْسَ فإنهم كانوا يطوفون في
ثيابهم ، وغيرهم إن حصل له ثياب من الحمس طاف فيها وإلا طاف عريانًا ،
وإن طاف بثيابه حرمت عليه فألقاها، فكانت تسمي لقاء ، وكذلك المرأة
إذا لم يحصل لها ثياب جعلت يدها على فرجها ويدها الأخري على دبرها
وطافت وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بــدا منــه فلا أحلــه
وقد سمي الله ذلك فاحشة، وقوله في سياق ذلك: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]،
يتناول كشف العورة أيضًا وإبداءها، ويؤكد ذلك أن إبداء فعل النكاح
باللفظ الصريح يسمي فحشاء وتَفَحُّشًا، فكشف الأعضاء والفعل للبصر
ككشف ذلك للسمع، وكل واحد من الكشفين يسمي وصفًا، كما قال عليه السلام
، ويقال: فلان يصف فلانًا وثوب يصف البشرة، ثم
إن كل واحد من إظهار ذلك للسمع والبصر يباح للحاجة، بل يستحب إذا لم
يحصل المستحب أو الواجب إلا بذلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم
لماعز ، وكقوله .
والمقصود أن الفاحشة تتناول الفعل القبيح وتتناول إظهار الفعل
وأعضاءه، وهذا كما أن ذلك يتناول ما فحش وإن كان بعقد نكاح، كقوله
تعالي: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} [النساء:
22]، فأخبر أن هذا النكاح فاحشة، وقـد قيـل: إن هـذا من الفواحش
الباطنة، فظهر أن الفاحشة تتناول العقود الفاحشة، كما تتناول المباشرة
بالفاحشة ، فإن قوله: {وَلاَ
تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} يتناول
العقد والوطء، وفي قوله: {مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، عموم
لأنواع كثيرة من الأقوال والأفعال، وأمر تعالي بحفـظ الفرج مطلقًا
بقوله: {وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وبقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} الآيات [المؤمنون: 5-
6]، وقال: {وَالْحَافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]، فحفظ
الفرج مثل قوله: {وَالْحَافِظُونَ
لِحُدُودِ اللّهِ} [التوبة: 112]، وحفظها هو صرفها عما
لا يحل.
وأما الأبصار فلابد من فتحها والنظر بها،وقد يفجأ الإنسان ما ينظر
إليه بغير قصد، فلا يمكن غضها مطلقًا؛ ولهذا أمر تعالي عباده بالغض
منها، كما أمر لقمان ابنه بالغض من صوته.
وأما قوله تعالي:{إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية
[الحجرات:3]، فإنه مدحهم على غض الصوت عند رسوله مطلقًا، فهم
مأمورون بذلك في مثل ذلك ينهون عـن رفـع الصوت عنـده صلى الله عليه
وسلم، وأمـا غض الصوت مطلقًا عند رسـول الله صلي الله عليه وآله وسلم
فهو غض خاص ممدوح، ويمكن العبد أن يغض صوته مطلقًا في كل حال، ولم
يؤمر العبد به، بل يؤمر برفع الصوت في مواضع؛ إما أمر إيجاب أو
استحباب؛ فلهذا قال: {وَاغْضُضْ مِن
صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، فإن الغض في الصوت والبصر جماع
ما يدخل إلى القلب ويخرج منه، فبالسمع يدخل القلب، وبالصوت يخرج منه،
كما جمع العضوين في قوله:{أَلَمْ
نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}
[البلد: 8- 9]، فبالعين والنظر يعرف القلب الأمور، واللسان
والصوت يخرجان من عند القلب الأمور، هذا رائد القلب وصاحب خبره
وجاسوسه، وهذا ترجمانه.
ثم قال تعالي: {ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة : 232] ، وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]،
وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] وقال في آية
الاستئذان:{وَإِن قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]
وقال:{فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء
حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}
[الأحزاب: 53] وقال:{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:
12].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ،، وقال في دعاء
الجنازة .
فالطهارة والله أعلم هي من الذنوب التي هي رجس، والزكاة تتضمن معني
الطهارة التي هي عدم الذنوب، ومعني النماء بالأعمال الصالحة: مثل
المغفرة والرحمة، ومثل النجاة من العذاب والفوز بالثواب، ومثل عدم
الشر وحصول الخير، فإن الطهارة تكون من الأرجاس والأنجاس، وقد قال
تعالي: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقال: {فّاجًتّنٌبٍوا برٌَجًسّ مٌنّ
الأّوًثّان } [الحج: 03]، وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، وقال عن المنافقين:
{فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ
رِجْسٌ} [التوبة: 95].
وقال عن قوم لوط: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ}[[الأنبياء: 74]، وقال
اللوطية عن لوط وأهله: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ
أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، قال مجاهد:
عن أدبار الرجال، ويقال في دخول الغائط: أعوذ بك من الخبث والخبائث،
ومن الرجس النجس الخبيث المخبث، وهذه النجاسة تكون من الشرك والنفاق
والفواحش والظلم ونحوها، وهي لا تزول إلا بالتوبة عن ترك الفاحشة
وغيرها، فمن تاب منها فقد تطهر، وإلا فهو متنجس وإن اغتسل بالماء من
الجنابة فذاك الغسل يرفع حدث الجنابة، ولا يرفع عنه نجاسة الفاحشة
التي قد تنجس بها قلبه وباطنه، فإن تلك نجاسة لا يرفعها الاغتسال
بالماء، وإنما يرفعها الاغتسال بماء التوبة النصوح المستمرة إلى
الممات.
وهذا معني ما رواه ابن أبي الدنيا وغيره: ثنا سويد بن سعيد، ثنا
مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن كثير، عن مجاهد، قال: لو أن الذي يعمل
يعني عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل
نجسًا.
ورواه ابن الجوزي، وروي القاسم بن خلف [هو أبو عبيد قاسم بن خلف بن
فتح بن عبد الله بن جبير، قاضٍٍ أندلسي، من علماء المالكية، ولد وتفقه
في قرطبة، ولي قضاء بلنسية وطرطوسة زمانًا، له كتاب (في التوسط بين
مالك وابن القاسم) فيما خالف به ابن القاسم مالكًا، ولد سنة 312،
وتوفي سجينًا سنة 378هـ] في كتاب [ذم اللواط] بإسناده عن الفضيل
بن عياض أنه قال: لو أن لوطيا اغتسل بكل قطرة نزلت من السماء للقي
الله غير طاهر. وقد روي أبو محمد الخلال عن العباس الهاشمي ذلك
مرفوعًا. وحديث إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: اللوطيان لو
اغتسلا بماء البحر لم يجزهما إلا أن يتوبا ، ورفع مثل هذا الكلام،
وإنما هو معروف من كلام السلف.
وكذلك روي عن أبي هريرة وابن عباس قالا: خطبنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقال في خطبته قال أبو هريرة:
هذا لمن لم يتب، وذلك أن تارك اللواط متطهر كما دل عليه القرآن،
ففاعله غير متطهر من ذلك فيكون متنجسًا، فإن ضد الطهارة النجاسة، لكن
النجاسة أنواع مختلفة تختلف أحكامها.
ومن هاهنا غلط بعض الناس من الفقهاء، فإنهم لما رأوا ما دل عليه
القرآن من طلب طهارة الجنب بقوله:{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6]، قالوا:فيكون الجنب
نجسًا، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال .
لما انخنس منه وهو جنب، وكره أن يجالسه، فهذه النجاسة التي نفاها
النبي صلى الله عليه وسلم هي نجاسة الطهارة بالماء التي ظنها أبو
هريرة، والجنابة تمنع الملائكة أن تدخل بيتًا فيه جنب، وقال أحمد:
إذا وضع الجنب يده في ماء قليل أنجس الماء، فظن بعض أصحابه أنه أراد
النجاسة الحسية، وإنما أراد الحكمية، فإن الفرع لا يكون أقوي من
الأصل، ولا يكون الماء أعظم من البدن، بل غايته أن يقوم به المانع
الذي قام بالبدن، والجنب ظاهره ممنوع من الصلاة، فيكون الماء كذلك
طاهرًا لا يتوضأ به للصلاة.
وأما الزكاة فهي متضمنة النماء والزيادة كالزرع، وإن كانت الطهارة
قد تدخل في معناها، فإن الشيء إذا تنظف مما يفسده زكي ونما وصلح وزاد
في نفسه، كالزرع ينقي من الدغل، قال الله تعالي:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ
اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء} [النور: 21]، {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ
نَفْسٍ} [الكهف: 74]، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}
[الشمس: 9]، وقال: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}
[النور: 28]، فإن الرجوع عمل صالح يزيد المؤمن زكاة وطهارة،
وقال: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، فإن ذلك
مجانبة لأسباب الريبة، وذلك من نوع مجانبة الذنوب والبعد عنها
ومباعدتها، فأخبر أن ذلك أطهر لقلوب الطائفتين.
وأما الآية التي نحن فيها وهي قوله: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى
لَهُمْ} [النور: 30] فالغض من البصر وحفظ الفرج يتضمن
البعد عن نجاسة الذنوب، ويتضمن الأعمال الصالحة التى يزكو بها
الإنسان، وهو أزكى، والزكاة تتضمن الطهارة؛ فإن فيها معنى ترك السيئات
ومعنى فعل الحسنات؛ ولهذا تفسر تارة بالطهارة وتارة بالزيادة والنماء،
ومعناها يتضمن الأمرين، وإن كان قرن الطهارة معها فى الذكر مثل
قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}
[التوبة:103]، فالصدقة توجب الطهارة من الذنوب، وتوجب الزكاة
التى هى العمل الصالح، كما أن الغض من البصر وحفظ الفرج هو أزكى لهم ،
وهما يكونان باجتناب الذنوب وحفظ الجوارح، ويكونان بالتوبة والصدقة
التى هى الإحسان، وهذان هما التقوى والإحسان و {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ
وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
وقد روى الترمذى وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم سُئِلَ ، وسُئِلَ عن أكثر ما يدخل
الناس الجنة؟ فقال فيدخل فى تقوى الله حفظ الفرج وغض البصر، ويدخل فى
حسن الخلق الإحسان إلى الخلق والامتناع من إيذائهم، وذلك يحتاج إلى
الصبر، والإحسان إلى الخلق يكون عن الرحمة ، والله تعالى
يقول:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].
وهو سبحانه ذكر الزكاة هنا، كما قدمها فى قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا}
[النور: 21]، فإن اجتناب الذنوب يوجب الزكاة التى هى زوال الشر
وحصول الخير، والمفلحون: هم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات،
كما وصفهم فى أول سـورة البقـرة فقال: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} الآيات [البقرة: 1، 2]، وقال:
{قَدْ أَفْلَحَ مَن
زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، فإذا كان قد أخبر أن هؤلاء
مفلحون، وأخبر أن المفلحين هم المتقون:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
[البقرة: 3]، وأخبر أن من زَكَّى نفسه فهو مفلح؛ دل ذلك على أن
الزكاة تنتظم الأمور المذكورة فى أول سورة البقرة.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء: 49]،
وقوله: {فَلَا تُزَكُّوا
أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}
[النجم:32]، فالتزكية من العباد لأنفسهم هى إخبارهم عن أنفسهم
بكونها زاكية واعتقاد ذلك؛ لأنفس جعلها زاكية، وقال تعالى عن
إبراهيم:{رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}
[البقرة: 129]، وقال: {لَقَدْ
مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ} الآية [آل عمران:
164]، وقال:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ} الآية
[الجمعة:2]، فامتن سبحانه على العباد بإرساله فى عدة مواضع،فهذه
أربعة أمور أرسله بها:تلاوة آياته عليهم، وتزكيتهم، وتعليمهم الكتاب
والحكمة.
وقد أفرد تعليمه الكتاب والحكمة بالذكر مثل قوله: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة: 231]،
وقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى
فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ}[الأحزاب: 34]، وذلك أن التلاوة عليهم
وتزكيتهم أمر عام لجميع المؤمنين؛ فإن التلاوة هى تبليغ كلامه تعالى
إليهم وهذا لابد منه لكل مؤمن، وتزكيتهم هو جعل أنفسهم زكية بالعمل
الصالح الناشئ عن الآيات التى سمعوها وتليت عليهم، فالأول سمعهم،
والثانى طاعتهم، والمؤمنون يقولون: سمعنا وأطعنا.
الأول علمهم والثانى عملهم، والإيمان قول وعمل، فإذا سمعوا آيات
الله وعوها بقلوبهم وأحبوها وعملوا بها، ولم يكونوا كمن قال فيهم:
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة:
171]، وإذا عملوا بها زكوا بذلك وكانوا من المفلحين
المؤمنين.
والله قال:{يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال فى ضدهم: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى
رَسُولِهِ} [التوبة: 97]، فأخبر أنهم أعظم كفرًا
ونفاقًا وجهلاً وذلك ضد الإيمان والعلم، فاستماع آيات الله والتزكى
بها أمر واجب على كل أحد، فإنه لابد لكل عبد من سماع رسالة سيده التى
أرسل بها رسوله إليه، وهذا هو السماع الواجب الذى هو أصل الإيمان،
ولابد من التزكى بفعل المأمور وترك المحظور، فهذان لابد
منهما.
وأما العلم بالكتاب والحكمة فهو فرض على الكفاية، لا يجب على كل أحد
بعينه أن يكون عالمًا بالكتاب: لفظه ومعناه، عالمًا بالحكمة جميعها،
بل المؤمنون كلهم مخاطبون بذلك وهو واجب عليهم، كما هم مخاطبون
بالجهاد، بل وجوب ذلك أسبق وأوكد من وجوب الجهاد، فإنه أصل الجهاد،
ولولاه لم يعرفوا علام يقاتلون؛ ولهذا كان قيام الرسول والمؤمنين بذلك
قبل قيامهم بالجهاد، فالجهاد سنام الدين، وفرعه وتمامه، وهذا أصله
وأساسه وعموده ورأسه، ومقصود الرسالة فعل الواجبات والمستحبات جميعًا،
ولا ريب أن استماع كتاب الله والإيمان به وتحريم حرامه وتحليل
حلاله.
والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه واجب على كل أحد، وهذا هو التلاوة
المذكورة فى: {الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]، فأخبر عن الذين
يتلونه حق تلاوته أنهم يؤمنون به، وبه قال سلف الأمة من الصحابة
والتابعين وغيرهم، وقوله: {حَقَّ
تِلاَوَتِهِ} كقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ
جِهَادِهِ} [الحج:78]، و{اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
[آل عمران:102].
وأما حفظ جميع القرآن وفهم جميع معانيه ومعرفة جميع السنة فلا يجب
على كل أحد، لكن يجب على العبد أن يحفظ من القرآن ويعلم معانيه ويعرف
من السنة ما يحتاج إليه، وهل يجب عليه أن يسمع جميع القرآن؟ فيه
خلاف، ولكن هذه المعرفة الحكمية التى تجب على كل عبد ليس هو علم
الكتاب والحكمة التى علمها النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته، بل
ذلك لا يكون إلا بمعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله من الألفاظ
والمعانى والأفعال والمقاصد، ولا يجب هذا على كل أحد.
وقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا
أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:
32]، دليل على أن الزكاة هى التقوى، والتقوى تنتظم الأمرين جميعًا،
بل ترك السيئات مستلزم لفعل الحسنات؛ إذ الإنسان حارث هُمَام، ولا يدع
إرادة السىئات وفعلها إلا بإرادة الحسنات وفعلها، إذ النفس لا تخلو عن
الإرادتين جميعًا، بل الإنسان بالطبع مريد فعال، وهذا دليل على أن هذا
يكون سببه الزكاة والتقوى التى بها يستحق الإنسان الجنة، كما فى صحيح
البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال" .
ومن تزكى فقد أفلح فيدخل الجنة، والزكاة متضمنة حصول الخير وزوال
الشر، فإذا حصل الخير وزال الشر من العلم والعمل حصل له نور وهدى
ومعرفة وغير ذلك، والعمل يحصل له محبة وإنابة وخشية وغير ذلك.
هذا لمن ترك هذه المحظورات وأتى بالمأمورات ويحصل له ذلك أيضًا قدرة
وسلطانًا، وهذه صفات الكمال: العلم، والعمل، والقدرة، وحسن الإرادة،
وقد جاءت الآثار بذلك، وأنه يحصل لمن غض بصره نور فى قلبه ومحبة، كما
جرب ذلك العالمون العاملون. وفى مسند أحمد حدثنا عَتَّابَ عن عبد
الله وهو ابن المبارك أنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن
على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى صلى الله عليه وسلم
قال .
ورواه أبو بكر ابن الأنبارى فى أماليه من حديث ابن أبى مريم، عن
يحيى بن أيوب به، ولفظه .
وقد رواه أبو نعيم فى الحلية : حدثنا أبى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن
الحسن، حدثنا محمد ابن يعقوب: قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو
مهدى سعيد بن سنان، عن أبى الزاهِرَّية، عن كُثَير بن مُرَّةَ، عن ابن
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو جعفر الخرائطى فى كتاب (اعتلال
القلوب) ثنا على بن حرب، ثنا إسحاق بن عبد الواحد، ثنا هُشَيْم، ثنا
عبد الرحمن بن إسحاق ، عن مُحِارب بن دِثار، عن جَبَلة، عن حذيفة بن
اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد رواه أبو محمد الخَلاَّل من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، عن
النعمان بن سعد، عن على، وفيه ذكر السهم. ورواه أبو نعيم: ثنا عبد
الله بن محمد هو أبو الشيخ ثنا ابن عفير، قال: ثنا شعيب بن سلمة،
ثنا عصمة بن محمد، عن موسى يعنى ابن عقبة عن القاسم بن محمد، عن عائشة
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وروى ابن أبى الفوارس من طريق ابن الجوزى، عن محمد بن المُسَيَّب، ثنا
عبد الله، قال: حدثنى الحسن، عن مجاهد قال: غض البصر عن محارم
الله يورث حب الله.
وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن
أبى زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جده جرير بن عبد الله البجلى قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرنى أن أصرف
بصرى.
ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، عن يونس به، ورواه أبو داود والترمذى
والنسائى من حديثه أيضًا وقال الترمذى: حسن صحيح.
وفى رواية قال ،
أى: انظر إلى الأرض، والصرف أعم، فإنه قد يكون إلى الأرض أو إلى جهة
أخرى.
وقال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزارى، حدثنا شَرِيك، عن
ربيعة الإيادى، عن عبد الله بن بَرِيدة، عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعلى ورواه
الترمذى من حديث شَرِيك، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وفى
الصحيح عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى أبو القاسم البغوى عن أبى
أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .
فالنظر داعية إلى فساد القلب.
قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب؛ فلهذا أمر الله بحفظ
الفروج، كما أمر بغض الأبصار التى هى بواعث إلى ذلك، وفى الطبرانى من
طريق عبيد الله بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعًا ، وقال الطبرانى: حدثنا أحمد بن زهير
التسترى، قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرى: حدثنا
يحيى بن أبى كثير، حدثنا هزيم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن
القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفى حديث أبى هريرة الصحيح عن النبى صلى الله عليه
وسلم" ، وذكر
الحديث رواه البخارى تعليقًا ومسلم مسندًا، وقد كانوا ينهون أن يحد
الرجل بصره إلى المردان، وكانوا يتهمون مَنْ فعل ذلك فى دينه.
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب
من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلا.
قال شيخ الإسلام: وأما النور والعلم والحكمة،فقد دل عليه قوله
تعالى فى قصة يوسف: {وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، فهى لكل محسن.
وفى هذه السورة ذكر آية النور بعد غض البصر وحفظ الفرج، وأمره
بالتوبة مما لا بد منه أن يـدرك ابـن آدم من ذلك.
وقـال أبـو عبـد الرحمــن السلمى [هو أبو عبد الرحمن بن الحسين بن
محمد بن موسى الأزدى السلمى النيسابورى، من علماء المتصوفة.
إمام حافظ محدث شيخ خراسان، بلغت تصانيفه مائة أو أكثر، منها:
[حقائق التفسير] و[طبقات الصوفية] وغيرها، ولد سنة 325هـ،
ومات فى شهر شعبان سنة 412 هـ، وكانت جنازته مشهودة] سمعت أبا
الحسين الوَرَّاق يقول: من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة
على لسانه يهتدى بها، ويهدى بها إلى طريق مرضاته؛ وهذا لأن الجزاء من
جنس العمل؛ فإذا كان النظر إلى محبوب فتركه لله عوضه الله ما هو أحب
إليه منه، وإذا كان النظر بنور العين مكروهًا أو إلى مكروه فتركه لله،
أعطاه الله نورًا فى قلبه وبصرًا يبصر به الحق.
قال شاه الكرمانى: من غَضَّ بصره عن المحارم، وعَمَّرَ باطنهِ
بِدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعَوَّدَ نفسه أكل الحلال،
وكَفَّ نفسه عن الشهوات، لم تخطئ له فراسة.
وإذا صَلُحَ علم الرجل فعرف الحق وعمله واتبع الحق، صار زكيًا
تقيًا مستوجبًا للجنة.
ويؤيد ذلك حديث أبى أمامة المشهور من رواية البغوى: حدثنا طالوت
بن عَبَّادُ، حدثنا فَضَالـة بن جبير، سمعت أبـا أمامة يقـول: سمعت
رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول .
فقد كفل بالجنة لمن أتى بهذه الست خصال، فالثلاثـة الأولى تبرئـة
مـن النفاق، والثلاثـة الأخـرى تبرئـة من الفسوق، والمخاطبون مسلمون،
فإذا لم يكن منافقًا كان مؤمنًا، وإذا لم يكن فاسقًا كان تقيًا فيستحق
الجنة.
ويوافق ذلك ما رواه ابن أبى الدنيا: حدثنا أبو سعيد المدنى، حدثنى
عمر بن سهل المازنى، قال: حدثنى عمر بن محمد بن صُهْبَان، حدثنى
صفوان بن سُلَيم، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم .
وقوله سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:
131]، يتناول النظر إلى الأموال واللباس والصور وغير ذلك من متاع
الدنيا: أما اللباس والصور فهما اللذان لا ينظر الله إليهما، كما فى
صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ، وقد قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ
هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74]، وذلك
أن الله يمتع بالصور كما يمتع بالأموال، وكلاهما من زهرة الحياة
الدنيا، وكلاهما يفتن أهله وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دنيا
وأخرى.
والهلكى رجلان: فمستطيع وعاجز، فالعاجز: مفتون بالنظر ومد
العين إليه، والمستطيع: مفتون فيما أوتى منه، غارق قد أحاط به ما لا
يستطيع إنقاذ نفسه منه.
وهذا المنظور قد يعجب المؤمن وإن كان المنظور منافقًا أو فاسقًا
كما يعجبه المسموع منهم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ
الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}
[المنافقون: 4]، فهذا تحذير من الله تعالى من النظر إليهم
واستماع قولهم، فلا ينظر إليهم ولا يسمع قولهم، فإن الله سبحانه قد
أخبر أن رؤياهم تعجب الناظرين إليهم، وأن قولهم يعجب السامعين.
ثم أخبر عن فساد قلوبهم وأعمالهم بقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}،،
فهذا مثل قلوبهم وأعمالهم، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [البقرة: 204]، وقد قال
تعالى فى قصة قوم لوط: {إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]،
والتوسم من السمة، وهى العلامة، فأخبر سبحانه أنه جعل عقوبات المعتدين
آيات للمتوسمين. وفى الترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال
ثم قرأ: {إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}.
فدل ذلك على أن من اعتبر بما عاقب الله به غيره من أهل الفواحش كان
من المتوسمين.
وأخبر تعالى عن اللوطية أنه طمس أبصارهم، فكانت عقوبة أهل الفواحش
طمس الأبصار، كما قد عرف ذلك فيهم وشوهد منهم ، وكان ثواب المعتبرين
بهم التاركين لأفعالهم إعطاء الأنوار، وهذا مناسب لذكر آية النور عقيب
غض الأبصار.
وأما القدرة والقوة التى يعطيها الله لمن اتقاه وخالف هواه فذلك
حاصل معروف، كما جاء: إن الذى يترك هواه يفرق الشيطان من
ظله.
وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال وفى رواية: أنه مر بقوم يخذفون حجرًا، فقال
أو كما قال.
وهذا ذكره فى الغضب؛ لأنه معتاد لبنى آدم كثيرًا، ويظهر
للناس.
وسلطان الشهوة يكون فى الغالب مستورًا عن أعين الناس، وشيطانها
خاف، ويمكن فى كثير من الأوقات الاعتياض بالحلال عن الحرام، وإلا
فالشهوة إذا اشتعلت واستولت قد تكون أقوى من الغضب، وقد قال تعالى :
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ
ضَعِيفًا} [النساء: 28]، أى: ضعىفا عن النساء لا
يصبر عنهن، وفى قوله {رَبَّنَا وَلاَ
تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:
286]، ذكروا منه العشق، والعشق يفضى بأهله إلى الأمراض والإهلاك،
وإن كان الغضب قد يبلغ ذلك أيضًا وقد دل القرآن على أن القوة والعزة
لأهل الطاعة التائبين إلى الله فى مواضع كثيرة، كقوله فى سورة هود:
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم
مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}
[هود:52]،وقوله:{وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
[المنافقون: 8]، {وَلاَ
تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
وإذا كان الذى قد يهجر السيئات يغض بصره ويحفظ فرجه وغير ذلك مما نهى
الله عنه، يجعل الله له من النور والعلم والقوة والعزة ومحبة الله
ورسوله، فما ظنك بالذى لم يَحُمْ حول السيئات، ولم يُعِرْها طرفه قط
ولم تحدثه نفسه بها؟! بل هو يجاهد فى سبيل الله أهلها ليتركوا
السيئات فهل هذا وذاك سواء؟ بل هذا له من النور والإيمان والعزة
والقوة والمحبة والسلطان والنجاة فى الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ذاك،
وحاله أعظم وأعلى، ونوره أتم وأقوى، فإن السيئات تهواها النفوس،
ويزينها الشيطان، فتجتمع فيها الشبهات والشهوات.
فإذا كان المؤمن قد حبب الله إليه الإيمان وزينه فى قلبه، وكَرَّه
إليه الكفر والفسوق والعصيان حتى يعوض عن شهوات الغى بحب الله ورسوله
وما يتبع ذلك، وعن الشهوات والشبهات بالنور والهدى، وأعطاه الله من
القوة والقدرة ما أيده به، حيث دفع بالعلم الجهل، وبإرادة الحسنات
إرادة السيئات، وبالقوة على الخير القوة على الشر فى نفسه فقط،
والمجاهد فى سبيل الله يطلب فعل ذلك فى نفسه وغيره أيضًا حتى يدفع
جهله بالظلم، وإرادته السيئات بإرادة الحسنات ونحو ذلك.
والجهاد تمام الإيمان وسنام العمل، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، وقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران:110]، وقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}
الآية [التوبة: 19]، فكذلك يكون هذا الجزاء فى حق المجاهدين،
كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}
[العنكبوت: 69]، فهذا فى العلم والنور، وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} إلى قوله: {صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [ النساء
: 66 ـ 68]، فقتل النفوس هو قتل بعضهم بعضًا، وهو من الجهاد،
والخروج من ديارهم هو الهجرة، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ما يوعظون به من
الهجرة والجهاد كان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا،ففى الآية أربعة
أمور:الخير المطلق، والتثبيت المتضمن للقوة والمكنة، والأجر العظيم،
وهداية الصراط المستقيم.
وقال تعالى:{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]،
وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ} إلى قوله:{عَاقِبَةُ الْأُمُور}ِِ
[الحج:40، 41] وقال:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ
يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54].
وأما أهل الفواحش الذين لا يغضون أبصارهم ولا يحفظون فروجهم، فقد
وصفهم الله بضد ذلك: من السكرة، والعمه، والجهالة، وعدم العقل، وعدم
الرشد، والبغض، وطمس الأبصار، هذا مع ما وصفهم به من الخبث، والفسوق،
والعدوان، والإسراف، والسوء ، والفحش ، والفساد، والإجرام ، فقال عن
قوم لوط : {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]، فوصفهم بالجهل، وقال {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وقال:{أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}
[هود: 78]، وقال: {فَطَمَسْنَا
أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]، وقال: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}
[الأعراف: 81]، وقال: {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ} [النمل: 69]، وقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74]، وقال:{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ
وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ
الْمُنكَر} إلى قوله:{انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ} إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
[العنكبوت: 29 ـ 34]، وقوله: {مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ
لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 34]
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس
عشر.