الإجابة
فصــل:
لما ذكر سبحانه ما يبطل الصدقة من المن والأذى ومن الرياء، ومثله
بالتراب على الصَّفْوان [أي الحجارة الملس. انظر: المصباح
المنير، مادة: صفو] إذا أصابه المطر؛ ولهذا قال:{وَلاَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ
الآخِرِ} [البقرة:264]،لأن الإيمان بأحدهما لا ينفع
هنا، بخلاف قوله فى النساء:{إِنَّ
الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} إلى
قوله: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَلاَ
بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:36-38].
فإنه فى معرض الذم، فذكر غايته وذكر ما يقابله وهم الذين ينفقون
أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم.
فالأول الإخلاص.
والتثبيت: هو التثبت كقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ
بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}
[النساء: 66]، كقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}
[المزمل: 8]، ويشبه والله أعلم أن يكون هذا من باب قدم وتقدم
كقوله:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فتبتل وتثبت
لازم بمعنى ثبت...[هنا كلمات غير متضحة] لأن التثبت هو
القوة والمكنة، وضده الزلزلة والرَّجْفَة، فإن الصدقة من جنس القتال،
فالجبان يرجف، والشجاع يثبت؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
لأنه
مقام ثبات وقوة، فالخيلاء تناسبه، وإنما الذي لا يحبه الله المختال
الفخور البخيل الآمر بالبخل، فأما المختال مع العطاء أو القتال
فيحبه.
وقوله: {من أنفسهم} أي:ليس المقوى له من خارج كالذي يثبت وقت
الحرب لإمساك أصحابه له، وهذا كقوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ }[الشورى:37]، بل تثبته ومغفرته من جهة
نفسه.
وقد ذكر الله سبحانه فى البقرة والنساء الأقسام الأربعة فى
العطاء.
إما ألا يعطى فهو البخيل المذموم فى النساء، أو يعطى مع الكراهة
والمن والأذى، فلا يكون بتثبيت وهو المذموم فى البقرة، أو مع الرياء
فهو المذموم فى السورتين، فبقى القسم الرابع: ابتغاء رضوان الله
وتثبيتاً من أنفسهم.
ونظيره الصلاة؛ إما ألا يصلى، أو يصلى رياء أو كسلان، أو يصلى
مخلصاً، والأقسام الثلاثة الأُول مذمومة. وكذلك الزكاة، ونظير ذلك
الهجرة والجهاد؛ فإن الناس فيهما أربعة أقسام، وكذلك {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ
وَاذْكُرُواْ الله كَثِيراً} [الأنفال: 45] فى الثبات
والذكر، وكذلك {وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]
فى الصبر والمرحمة أربعة أقسام، وكذلك {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاَةِ} [البقرة:45] فهم...[هنا كلمات
غير متضحة] فى الصبر والصلاة.
فعامة هذه الأشفاع التي فى القرآن: إما عملان،و إما وصفان فى عمل؛
انقسم الناس فيها قسمة رباعية، ثم إن كانا عملين منفصلين كالصلاة
والصبر، والصلاة والزكاة ونحو ذلك نفع أحدهما ولو ترك الآخر، وإن كانا
شرطين فى عمل كالإخلاص والتثبت لم ينفع أحدهما، فإن المن والأذى محبط،
كما أن الرياء محبط، كما دل عليه القرآن، ومن هذا تقوى الله وحسن
الخلق؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والبر والتقوى
والحق والصبر، وأفضل الإيمان السماحة والصبر.
بخلاف الأشفاع فى الذم كالإفك والإثم، والاختيال والفخر، والشح
والجبن، والإثم والعدوان؛ فإن الذم ينال أحدهما مفرداً ومقروناً، لأن
الخير من باب المطلوب وجوده لمنفعته، فقد لا تحصل المنفعة إلا بتمامه،
والشر يطلب عدمه لمضرته وبعض المضار يضر فى الجملة غالباً؛ ولهذا فرق
فى الأسماء بين الأمر والنهى، والإثبات والنفي، فإذا أمر بالشيء اقتضى
كماله، وإذا نهى عنه اقتضى النهى عن جميع أجزائه؛ ولهذا حيث أمر الله
بالنكاح كما في المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، وكما في الإحصان
فلابد من الكمال بالعقد والدخول، وحيث نهى عنه كما فى ذوات المحارم
فالنهى عن كل منهما على انفراده، وهذا مذهب مالك وأحمد المنصوص عنه
أنه إذا حلف ليتزوجن لم يَبَرَّ إلا بالعُقْدَة والدخول، بخلاف ما إذا
حلف لا يتزوج فإنه يحنث بالعقدة، وكذلك إذا حلف لا يفعل شيئاً حنث
بفعل بعضه، بخلاف ما إذا حلف ليفعلنه، فإن دلالة الاسم على كل وبعض
تختلف باختلاف النفي والإثبات.
ولهذا لما أمر الله بالطهارة والصلاة والزكاة والحج كان الواجب
الإتمام، كما قال تعالى:{بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}
[البقرة:124] وقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}
[النجم:37].
ولما نهى عن القتل و الزنا والسرقة والشرب كان ناهياً عن أبعاض ذلك،
بل وعن مقدماته ـ أيضاً، وإن كان الاسم لا يتناوله فى الإثبات؛ ولهذا
فرق فى الأسماء النكرات بين النفي والإثبات، والأفعال كلها نكرات،
وفرق بين الأمر والنهى بين التكرار وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم
.
وإنما اختلف فى المعارف المنفية على روايتين، كما فى قوله: لا
تأخذ الدراهم، ولا تكلم الناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الرابع
عشر.