الإجابة
وَقاَلَ شيخ الإِسلام فى الكلام على قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا}
[النساء:27].
فذكر ما يتعلق بشهوات الآدميين من سائر ما تشتهيه أنفسهم حتى
النساء والمردان، وقال:
العبد يجب عليه إذا وقع فى شيء من ذلك أن يجاهد نفسه وهواه، وتكون
مجاهدته للّه تعالى وحده.
ثم قال: وميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى
كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان، وإن لم يكن يفعل الفاحشة
الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة، وإن لم تكن كان بالنظر، ويحصل
للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس.
وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم
ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى طاعة الله تعالى وهو مأمور بهذا
الجهاد، وليس هو أمراً حرمه على نفسه فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو
أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فتكون المجاهدة للنفس فى طاعة
الله ورسوله.
وفى حديث أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وأبو يحيى فى حديثه نظر، لكن المعنى الذي ذكر فيه دل
عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمره بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف
عن كل ما حرم الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد
ورجل.
والصبر أن يصبر عن شكوى به إلى غير الله، فإن هذا هو الصبر
الجميل.
وأما الكتمان فيراد به شيئان:
أحدهما: أن يكتم بَثَّه وألمه، ولا يشكو إلى غير الله، فمتى شكا إلى
غير الله نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يصبر عليه كل
أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين؛ فإن شكا ذلك إلى
طبيب يعرف طب النفوس ليعالج نفسه بعلاج الإيمان فهو بمنزلة المستفتى،
وهذا حسن.
وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام.
وإن شكا إلى غيره لما فى الشكوى من الراحة كما أن المصاب يشكى
مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلم ما ينفعه، ولا الاستعانة على
معصية، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً إلا إذا اقترن به ما يحرم
كالمصاب الذي يتسخط.
والثاني: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار
السوء والفاحشة؛ فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت وتشهت وتمنت
وتتيمت.
والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه، كان ذلك داعيا
له إلى الفعل، والنساء متى رأين البهائم تنزو الذكور منها على الإناث
مِلْنَ إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان
والنساء أو رأى ذلك أو تخيله فى نفسه، دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر
الإنسان طعاما اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو
امرأة أو مسكن أو غير ذلك، مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر
بالوطن حَنَّ إليه.
فكل ما كان فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب
إلى ذلك المحبوب المطلوب، إما إلى وصفه وإما إلى مشاهدته، وكلاهما
يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع والرؤية أو التفكر فى
بعض الأمور المتعلقة به؛ فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت
إلى تخيلة أخرى فتحركت داعية المحبة، سواء كانت المحبة محمودة أو
مذمومة.
ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، وتتحرك بذكر الأبرق
والأجرع والعُلَى ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى
المحبوب، فصار ذكرها يذكر المحبوب.
وكذلك إذا ذكر رسول صلى الله عليه وسلم تذكر به، وتحركت
محبته.
فالمبتلى بالفاحشة والعشق، إذا ذكر ما به لغيره تحركت النفوس إلى
جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة، فإذا تصورت جنس ذلك
تحركت إلى المحبوب؛ ولهذا نهى الله عن إشاعة الفاحشة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الرابع
عشر.