الإجابة
فصــل:
وقد ظن طائفة أن فى الآية إشكالا، أو تناقضاً فى الظاهر، حيث قال:
{كٍلَِ مٌَنً عٌندٌ بلَّهٌ} ثم فرق بين الحسنات والسيئات، فقال:
{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ
الله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}
[النساء:79].
وهذا من قلة فهمهم، وعدم تدبرهم الآية، وليس فى الآية تناقض، لا فى
ظاهرها، ولا فى باطنها، لا فى لفظها ولا معناها؛ فإنه ذكر عن
المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، الناكصين عن الجهاد، ما ذكره
بقوله:{أأَيْنَمَا تَكُونُواْ
يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ
وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ الله وَإِن
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ}
[النساء:78]، هذا يقولونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي:
بسبب ما أمرتنا به من دينك، والرجوع عما كنا عليه، أصابتنا هذه
السيئات؛ لأنك أمرتنا بما أوجبها.
فالسيئات هي المصائب، والأعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب هو أمرهم
بها.
وقولهم: {مِنْ عِندِكَ} تتناول مصائب الجهاد التي توجب
الهزيمة؛ لأنه أمرهم بالجهاد، وتتناول أيضا مصائب الرزق على جهة
التشاؤم، والتطير، أي: هذا عقوبة لنا بسبب دينك، كما كان قوم فرعون
يتطيرون بموسى وبمن معه، وكما قال أهل القرية للمرسلين: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}
[يس:18]، وكما قال الكفار من ثمود لصالح ولقومه: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ}
[النمل: 74]، فكانوا يقولون عما يصيبهم من الحرب، والزلزال
والجراح والقتل، وغير ذلك مما يحصل من العدو: هو منك؛ لأنك أمرتنا
بالأعمال الموجبة لذلك.
ويقولون عن هذا، وعن المصائب السمائية: إنها منك، أي: بسبب
طاعتنا لك وإتباعنا لدينك، أصابتنا هذه المصائب، كما قال تعالى:
{ووَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ الله
عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11].
فهذا يتناول كل من جعل طاعة الرسول، وفعل ما بعث به مسبباً لشر
أصابه، إما من السماء وإما من آدمى، وهؤلاء كثيرون.
لم يقولوا: {هَـذِهِ مِنْ
عِندِكَ} بمعنى: أنك أنت الذي أحدثتها؛ فإنهم يعلمون أن
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث شيئا من ذلك، ولم يكن قولهم:
{مِنْ عِندِكَ } خطاباً من
بعضهم لبعض، بل هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فهم هذا تبين له أن قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله
وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} لا يناقض
قوله:{كُلًّ مِّنْ عِندِ
الله} بل هو محقق له؛ لأنهم هم ومن أشبههم إلى يوم القيامة
يجعلون ما جاء به الرسول، والعمل به سبباً لما قد يصيبهم من مصائب،
وكذلك من أطاعه إلى يوم القيامة.
وكانوا تارة يقدحون فيما جاء به، ويقولون: ليس هذا مما أمر الله
به، ولو كان مما أمر الله به لما جرى على أهله هذا البلاء.
وتارة لا يقدحون فى الأصل، لكن يقدحون فى القضية المعينة، فيقولون:
هذا بسوء تدبير الرسول، كما قال عبد الله بن أُبَيّ بن سلول يوم أُحُد
إذ كان رأيه مع رأى النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يخرجوا من المدينة
فسأله صلى الله عليه وسلم ناس ممن كان لهم رغبة فى الجهاد أن يخرج،
فوافقهم، ودخل بيته ولبس لأمَتَه فلما لبس لأمته ندموا، وقالوا للنبي
صلى الله عليه وسلم: أنت أعلم، فإن شئت ألاّ نخرج، فلا نخرج فقال
[واللأمة: الدرع،
وقيل: السلاح. ولأمة الحرب: أداته] يعنى: أن الجهاد يلزم
بالشروع، كما يلزم الحج، لا يجوز ترك ما شرع فيه منه إلا عند العجز
بالإحصار فى الحج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الرابع
عشر.