الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الكلام لا يصح بالإطلاق المذكور في السؤال؛ فإن من التفسير ما يجزم بثبوته، وهو ما كان معتمدًا فيه على النصوص القطعية مثل: التفسير بالقرآن أو الأحاديث الثابتة، ويلي ذلك ما نقل عن علماء الصحابة والتابعين، فكل ما ثبت نقله عنهم يعتبر مقبولًا لما عرف عنهم من فهم اللغة والدلالة وعلمهم بأسباب النزول، ولا يعتبر من الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا؛ فقد قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في مقدمة تفسيره: (والفرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول لله لما يرضي رسول الله" وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه. وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود ... ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترجمان القرآن- …)
ثم قال: (إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، فإنه كان آية في التفسير كما قال محمد بن إسحاق: ثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها…. وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس ، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، وتابعيهم، ومن بعدهم).
وأما التفسير بالرأي المعتمد فيه على الدلالة اللغوية والاجتهاد ممن يحق لهم الاجتهاد من علماء السنة: فهذا مبنيّ على الظن فعلًا، ولكنه من الظن الذي يعمل به، فقد دلت الأدلة الشرعية على أن المسلم متعبد بما دلت عليه آيات القرآن وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- دون تفريق بين ما هو ظني الدلالة أو قطعيها.
ومثل هذا الظن ليس هو المراد بالآية لأن الآية تعني الشك؛ فقد جاء في تفسير الطبري (15/ 89):
القول في تأويل قوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنًّا، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شك وريبة (إن الظن لا يغني من الحق شيئا)، يقول: إن الشك لا يغني من اليقين شيئًا، ولا يقوم في شيء مقامه، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين. (إن الله عليم بما يفعلون)، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون، من اتباعهم الظن، وتكذيبهم الحق اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يغني عنهم ظنهم من الله شيئًا. اهـ.
وفي تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 178):
تقدم الكلام في الظن، وأنه أعم ألفاظ الشك واليقين، وأنه اسم لما تحصّل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت حدًّا لم يتجاوز حد الوهم، وأنه متى قوي استعمل معه أن المشدة، و"أنْ" المخففة منها ، ومتى ضعفت استعمل معه "أن" المختصة بالمعدومين من الفعل نجو "ظننت أن خرج، وأن يخرج" فالظن إذا كان بالمعنى الأول فمحمود، وإذا كانت بالمعنى الثاني: فمذموم، والآية من المعنى الأول، والمعنى الثاني كقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، وقوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. اهـ.
وقال الشيخ/ الأمين الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 35):
الظن يطلق في لغة العرب التي نزل بها القرآن على معنيين:
أحدهما: الشك، كقوله: وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا [ وقوله -تعالى- عن الكفار: إن نظن إلا ظنًّا وما نحن بمستيقنين. والثاني: هو إطلاق الظن مرادًا به العلم واليقين، ومنه قوله -تعالى- هنا: وظنوا ما لهم من محيص أي أيقنوا أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم، ومنه بهذا المعنى قوله -تعالى-: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها، أي: أيقنوا ذلك وعلموه، وقوله -تعالى-: الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون، وقوله -تعالى-: قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وقوله -تعالى-: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه. فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين. اهـ.
والله أعلم.