الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمراد الطبري ـ رحمه الله ـ بهذا الكلام إبطال القول بخلق القرآن، فبعد أن أقام الدليل على كون القرآن ليس بمخلوق، أراد إقامة الحجة على بطلان كونه مخلوقا، فقال: ومن أبى ما قلنا في ذلك، قيل له: أخبرنا عن الكلام الذي وصفت أن القديم به متكلمٌ مخلوقٌ، أخلقه ـ إذ كان عنده مخلوقاً ـ في ذاته، أم في غيره، أم قائمٌ بنفسه؟ فإن زعم خلقه في ذاته، فقد أوجب أن تكون ذاته محلاً للخلق، وذلك عند الجميع كفرٌ... إلخ اهـ.
يعني أن القائل بخلق القرآن، وأن محل هذا الخلق هو ذات الله تعالى، قد قال كفرا، بجعله ذات الله محلا للمخلوقات.
وأما كلام القاضي عبد الوهاب المالكي في شرح مقدمة الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، فمراده إثبات استواء الله تعالى على العرش، دون إثباتٍ لكيفيته، لأن الكيف مجهول، لم يأت في الشرع بيانه، ولم يُؤثر عن السلف السؤال عنه ولا الخوض فيه، وإثبات كيفية بطريق العقل ستؤول إلى معنى التجسيم أو التمثيل الذي ينزه الله سبحانه عنه، قال ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية: قول القاضي عبد الوهاب إمام المالكية بالعراق ـ من كبار أهل السنة رحمه الله تعالى ـ صرح بأن الله سبحانه استوى على عرشه بذاته، نقله شيخ الإسلام عنه في غير موضع من كتبه، ونقله عنه القرطبي في شرح الأسماء الحسنى. اهـ.
فمقصود القاضي هو إثبات استواء الله تعالى على العرش بذاته، وتفويض العلم بكيفيته إلى الله تعالى، وهذا القدر لا يتعارض مع إثبات الصفات الفعلية الاختيارية الواردة في النصوص الشرعية بشكل كلي، وإن كان ذلك قد يحدث في بعض التفاصيل والجزئيات التي نشأ صاحبها على مذهب الأشاعرة، وقد أثبت القاضي أصل هذه الصفات اتباعا لنصوص، كصفة المجيء مثلا، فقال في شرح قول القيرواني: وأن الله يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفا ـ قال: وهذا لقوله عز وجل: وجاء ربك والملك صفاً صفا ـ فأثبت نفسه جائياً، ولا معنى لقول من يقول: إن المراد به: جاء أمر ربك، لأن ذلك إضمار في الخطاب يزيله عن مفهومه، ويحيله عن ظاهره، لا حاجة بنا إليه.. وليس المجيء الذي أضافه إلى نفسه على سبيل ما يكون منا من الانتقال والتحرك والزوال وتفريغ الأماكن وشغلها، لأنه ذلك من صفات الأجسام، والباري سبحانه لا يجوز عليه ذلك، ولكن ليس إذا استحال عليه ذلك وجب صرف الكلام عن حقيقته، لأجل أن القضاء على الغائب بمجرد الشاهد لا يجب عندنا، ولا عند مسلم، فبطل ما قالوه. اهـ.
وإنما يتعارض إثبات الصفات الاختيارية مع مذهب الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من أهل التعطيل، الذين يسمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث، قال الشيخ محمد الحمد في كتاب مصطلحات في كتب العقائد: معنى حلول الحوادث بالله تعالى ـ أي قيامها بالله، ووجودها فيه عز وجل، وما مقصود أهل التعطيل من هذا الإطلاق نفي اتصاف الله بالصفات الاختيارية الفعلية، وهي التي يفعلها متى شاء، كيف شاء، مثل الإتيان لفصل القضاء، والضحك، والعجب والفرح، فينفون جميع الصفات الاختيارية... اهـ. ثم ذكر حجتهم وردها، وجواب أهل السنة عنها.
وقد وافقهم في بعض ذلك الكلابية والأشاعرة والماتريدية، قال الدكتور محمد التميمي في كتابه مقالة التعطيل والجعد بن درهم: الكلابية وقدماء الأشاعرة: يثبتون الأسماء والصفات ما عدا صفات الأفعال الاختيارية ـ أي التي تتعلق بمشيئته واختياره ـ فهم إما يؤولونها، أو يثبتونها على اعتبار أنها أزلية، وذلك خوفاً منهم على حد زعمهم من حلول الحوادث بذات الله، أو يجعلونها من صفات الفعل المنفصلة عن الله التي لا تقوم به، وأما الأشاعرة المتأخرون ومعهم الماتريدية فهم يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات هي: الحياة، العلم، القدرة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام ـ ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي: التكوين ـ وينفون باقي الصفات ويؤولون النصوص الواردة فيها ويحرفون معانيها. اهـ.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 313828.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين رقم: 120182، ورقم: 197355.
والله أعلم.