الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الحديث المشار إليه لم يرد فيه أن النسيان كان في الصلاة، وإنما ورد ذلك في حديث أبي داود عن ابن أبزى عن أبيه قال: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فترك آية، فقال: "أفي القوم أُبَيّ؟". فقال: يا رسول الله، نعم، أنسخت آية كذا وكذا أم نسيتها؟ فضحك، فقال: "بل نسيتها". وهذا الحديث قال فيه الألباني: إسناده صحيح.
وأما عن التوفيق بين هذا وبين الآية: فقد تفضل الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن لا ينسى من القرآن شيئًا إلا ما أراد الله نسخه، أو ما يعرض له من النسيان المؤقت بطبيعته البشرية بعد تبليغه، ثم يقيض الله له ما يذكره به، فكان نسيانه -صلى الله عليه وسلم- لهذه الآية نسيان لفظ كما يحدث لكل البشر، ولكن الله تعالى لن يتركه ينساها بالكلية حتى تضيع منه، لأن الله -عز وجل- متكفل بحفظ كتابه. فقد جاء في تفسير ابن جزي: سنقرئك فلا تنسى، هذا خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعده الله أن يقرئه القرآن فلا ينساه، وفي ذلك معجزة له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان أميًّا لا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام من القرآن ... إلا ما شاء الله، فيه وجهان: أحدهما: أن معناه: لا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، كقوله: أو ننسها [البقرة: 106] فإن النسيان جائز على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن، أو فيما قضى الله أن ينساه ثم يذكره، ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سمع قراءة عباد بن بشير -رحمه الله-: لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت قد نسيتها. اهـ.
وفي فتح الباري لابن حجر (9/ 85): قال الإسماعيلي: النسيان من النبي -صلى الله عليه وسلم- لشيء من القرآن يكون على قسمين؛ أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود في السهو: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون. والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله. قال: فأما القسم الأول فعارض سريع الزوال لظاهر قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. وأما الثاني فداخل في قوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة، وفي الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما ليس طريقه البلاغ مطلقًا، وكذا فيما طريقه البلاغ لكن بشرطين؛ أحدهما: أنه بعد ما يقع منه تبليغه. والآخر: أنه لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره إما بنفسه وإما بغيره. وهل يشترط في هذا الفور؟ قولان؛ فأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلًا، وزعم بعض الأصوليين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه نسيان أصلًا، وإنما يقع منه صورته ليسن؛ قال عياض: لم يقل به من الأصوليين أحد إلا أبا المظفر الإسفراييني، وهو قول ضعيف. اهـ.
وأما ما سألت عنه من أنه صلى الله عليه وسلم لم ينس بعد نزول آية: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى {الأعلى:6}: فقد نقله القرطبي في تفسير الآية ضمن عدة أقوال فيها، والظاهر: عدم صحة القول بعدم نسيانه مطلقًا؛ لأن سورة الأعلى نزلت بمكة كما روى البيهقي عن ابن عباس، وقد وقع بعدها نسيان بالمدينة مثل الآية التي تذكرها بسماعها من أحد الصحابة كما في حديث عائشة المذكور في السؤال؛ فإن عائشة -رضي الله عنها- لم ترو عنه إلا بالمدينة بعد الهجرة.
والله أعلم.