الفتاوى

الحيوان المنوي من الماء
لماذا يحدثنا الله عز وجل أنه خلق الكائنات الحية بما في ذلك الإنسان من ماء، كما في قوله تعالى في سورة النور: والله خلق كل دابة من ماء. وفي سورة الطارق: خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب. بينما العلم الحديث اليوم يقول إن الإنسان مخلوق من دودة صغيرة واحدة لا ترى، تسمى الحيوان المنوي، وهذه الدودة أو الخلية التناسلية لكل عاقل، لا يصدق عليها وصف الماء. أليست النطفة في القرآن تعني ماء المني، كما فسره بذلك سلفنا الصالح، حتى النطفة الأمشاج في القرآن المقصود منها مني الرجل ومني المرأة؟ وأيضا جاء في عدة أحاديث صحيحة أنه إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة، أشبه الولد أباه إلى آخر الحديث. وليس هناك تفسير واحد يقول إن المني في القرآن المقصود به الحيوان المنوي، أو الخلية التناسلية. فماذا يعني هذا، فالقرآن والسنة لا يبدوان لي مطابقين للعلم الحديث؟

الإجابة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فنقول أولا: لا يليق بالمسلم أن يسأل بمثل هذا الأسلوب الذي قد يفهم منه سوء أدب واستخفاف، وقلة تعظيم للقرآن العظيم.  مع انبهار وتقديس لما يسميه بالعلم الحديث، كأنه هو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فالقرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وهو الحاكم على غيره، المهمين على ما سواه من الكتب ومصادر المعرفة، كما الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ {المائدة:48}.

وللفائدة، راجع الفتاوى: 66196//  182599 //  180641.

وهذا السؤال متضمن للجواب، فالماء الذي خلق منه الإنسان كما أخبر القرآن الكريم هو النطفة، وكون العلم يقرر أن أصل خلق الحيوان هو من حيوان منوي كالدودة الصغيرة، لا ينافي ذلك ولا يعارضه،  فمن أين أتى هذا الحيوان المنوي أليس من الماء -الذي هو النطفة-؟!

وننقل هاهنا لتمام الفائدة، كلاما لابن القيم يبين فيه حال أهل العلم والإيمان، وما يثمره إيمانهم وتفكرهم فيما أخبر الله به من بدء خلق الإنسان -وهو كذلك في مجمله مشاهد معلوم للخلق كلهم لا يحتاج إلى علم حديث ليكشفه-، وقارنه بما ذكرته في سؤالك هذا!

قال ابن القيم: وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه، أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته واحسانه وبره ولطفه، وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه. فبهذا تعرف الى عباده وندبهم الى التفكر في آياته.

فمن ذلك: خلق الانسان، وقد ندب سبحانه إلى التفكر فيه، والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق}، وقوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، وقال تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا}، وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}، وقال تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون}. وقال: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين}، وقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}.

وهذا كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره. وأقرب شيء إلى الانسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره؛ قال الله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره}.

فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث.

فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وانتنت. كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته، مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها. وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد، جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده، ولا برد بحمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه. ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها. وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار، واليابس واللين. وبين ذلك ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده، وأبعده عن الانحلال، وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا. وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها وهي محفوظة به، وكيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والانف وسائر المنافذ... إلى آخر كلامه رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة. ونوصيك بالرجوع إليه وقراءته.

وراجع للفائدة الفتوى: 175025 .

والله أعلم.

Icon