الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالكلام على آيات القرآن الكريم على النحو المذكور في السؤال؛ لا يليق بمؤمن يعظّم الله عزّ وجل، ويعلم أنّ القرآن كلام الله، تنزيل من حكيم حميد.
فلا يظنّ مؤمن بربه أنّه يشرع حكماً لمصلحة طائفة على حساب طائفة، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: قال تعالى: {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله} يعني: لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيا ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم، وما هو عليه منطو من هذه الصفات. وقوله: {بل أولئك هم الظالمون} أي: بل هم الظالمون الفاجرون، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور، تعالى الله ورسوله عن ذلك. انتهى.
فلا يرتاب مؤمن في كون الله تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، أحكامه كلها عدل تام ورحمة واسعة، فهو سبحانه أرحم بالعبد من أمّه وأبيه ومن نفسه، وأعلم بمصالحه من كل أحد. وقد سبق لنا بيان المقصود من الآية الكريمة المذكورة، في الفتوى: 411667.
ومن العجب أن تسأل هل الآية تدل على أنّه لا بأس بتعنت الأولياء وتعسير الزواج؟ مع أنّ الآية التي قبلها تطالب الأولياء بتيسير الزواج، قال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32]
قال أبو جعفر الطبري -رحمه الله- في تفسيره: يقول تعالى ذكره: وزوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له، من أحرار رجالكم ونسائكم، ومن أهل الصلاح من عبيدكم ومماليككم....... (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ) يقول: إن يكن هؤلاء الذين تُنْكِحونهم من أيامى رجالكم ونسائكم وعبيدكم وإمائكم أهل فاقة وفقر، فإن الله يغنيهم من فضله، فلا يمنعنكم فقرهم من إنكاحهم. انتهى.
فإذا تعنّت الأولياء وتعسّر الزواج؛ فقد أمر الله بالاستعفاف حتى يتيسر الزواج، فهل يجد العاقل -فضلا عن المؤمن- غضاضة في هذا الحكم؟
أم يريد أن يبيح الله لمن عجز عن النكاح أن ينتهك الحرمات ويعتدي على الأعراض؟ وهل يرضى أن يعتدي غير القادرين على الزواج على محارمه؟
فالاستعفاف؛ طاعة لله تعالى وزكاة للنفس وطهارة للمجتمع، وكل ذلك مصلحة للمستعفّ نفسه، قال تعالى: قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس: 108]
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: يقول تعالى آمرا لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه. انتهى.
وأمّا الذي يعين على العمل بالآية الكريمة والأمر بالاستعفاف، فهو ما بينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوصيته لمن لا يجد النكاح بالصوم، والصوم الذي ينتفع به العبد هو الصوم الذي يحفظ فيه سمعه وبصره عن الحرام ، ومما يعين على العمل بالآية الكريمة كذلك سد أبواب الفتنة والبعد عن كل ما يثير الشهوة ، مع الاعتصام بالله ، والحرص على تقوية الصلة به ، وصحبة الصالحين ، وشغل الفراغ بالأعمال النافعة ، وممارسة بعض الرياضة.
والمقصود بصرف دواعي القلب عن الأفكار التي تقع فيه؛ ألا يستسلم العبد لما يلقيه الشيطان في نفسه، وما يخطر له من الأمور التي تثير الشهوة، ولا يسترسل معها حتى لا تؤدي إلى فساد وفتنة، قال ابن القيم –رحمه الله- في طريق الهجرتين: قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال : وهي شيئان أحدهما حراسة الخواطر وحفظها والحذر من إهمالها والاسترسال معها فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء لأنها هي بذر الشيطان والنفس في أرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال. انتهى.
وللفائدة راجع الفتويين : 36423، 23231.
والله أعلم.