الفتاوى

تفسير قوله تعالى: ( الله نور السموات والأرض )، وتفسير المثل المضروب .
من المعلوم أن أهل السنة والجماعة يثبتون صفات الله تعالى من غير تمثيل ، فهل المثل في سورة النور حول نور الله يعني مماثلة نور المشكاة لنوره أم تشبيه له ؟

الإجابة

الحمد لله  

أولًا :

" النور " صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، وقد عدَّ بعضهم (النُّور) من أسماء الله تعالى، ويدل عليه قوله تعالى :   اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ   النور/35 ، وقوله تعالى :  وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ...  الزمر/69.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا :   إنَّ الله تبارك وتعالى خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ضلَّ ...   أحمد (6644) ، والترمذي (2642) واللفظ له.

وفي الحديث:  اللهم لك الحمد؛ أنت نور السَّماوات والأرض، ولك الحمد ...   البخاري (7385، 7442، 7499) ، ومسلم (769) .

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه: " اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات " - كما في " مجموع الفتاوى " (5/73) -: " فعلى المؤمنين ، خاصتهم وعامتهم : قبول كل ما ورد عنه عليه السلام، بنقل العدل عن العدل، حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم.

وإنَّ مما قص الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك؛ أن قال: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ، ثم قال عقيب ذلك: نُورٌ عَلَى نُورٍ ، وبذلك دعاه صلى الله عليه وسلم: ( أنت نور السماوات والأرض ) "انتهى .

وقال شيخ الإسلام في " مجموع الفتاوى " (6/386) : " ... النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض، وقد أخبر النص أنَّ الله نور، وأخبر أيضاً أنه يحتجب بالنور؛ فهذه ثلاثة أنوار في النص، وقد تقدم ذكر الأول، وأمَّا الثاني؛ فهو في قوله: وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وفي قوله: مَثَلُ نُورِهِ ،  ... وعن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ضل ) ".

وقال في موضع آخر (6/392) : " وقد أخبر الله في كتابه أنَّ الأرض تشرق بنور ربها، فإذا كانت تشرق من نوره؛ كيف لا يكون هو نوراً؟ ‍‍! ولا يجوز أن يكون هذا النورُ، المضافَ إليه إضافةَ خلق وملك واصطفاء؛ كقوله: ناقة الله ونحو ذلك؛ لوجوه ... " وذكرها  . انتهى .

انظر: " صفات الله " لعلوي السقاف: (356).

ثانيًا:

أما قوله تعالى:  اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النور/34 .

فقد اختلف العلماء من أهل السنة هل هذه الآية من آيات الصفات أم لا ، مع إثباتهم صفة النور لله تعالى ؟

1- فذهب بعضهم إلى أنها ليست من آيات الصفات، وأن معناها: هادي السماوات والأرض، وأن إضافة النور إلى الله إضافة فعل إلى فاعله .

2- وذهب بعضهم إلى أنها من آيات الصفات، وأن إضافة النور من إضافة الصفة إلى الموصوف بها .

وذهب بعض العلماء إلى أن من قال من السلف بالقول الأول، فليس " مقصوده به نفي حقيقة النور عن الله، وأنه ليس بنور، ولا نور له "، ومن قال: إنه بمعنى منور " ؛ فهذا لا ينافي كونه في نفسه نورا ، وأن يكون النور من أسمائه وصفاته بل يؤكد ذلك " . انتهى من "مختصر الصواعق المرسلة" (426 - 428).

وقال ابن تيمية: " ثم قول من قال من السلف: هادي أهل السموات والأرض لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا ؛ فإن من عادة السلف في تفسيرهم: أن يذكروا بعض صفات المفسَّر من الأسماء، أو بعض أنواعه؛ ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى ؛ بل قد يكونان متلازمين ، ولا دخول بقية الأنواع فيه "، انتهى من " مجموع الفتاوى " (6/ 390).

وقال: " فقول من قال: ( الله نور السماوات والأرض ): هادي أهل السموات والأرض؛ كلام صحيح، فإن من معاني كونه نور السموات والأرض: أن يكون هاديًا لهم.

أمَّا إنهم نفوا ما سوى ذلك: فهذا غير معلوم.

وأما إنهم أرادوا ذلك: فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار؛ نور السموات من نور وجهه "، انتهى من " مجموع الفتاوى "(6/ 391).

ثالثا:

اختلف العلماء في الضمير في قوله (مثل نوره) على  قولين:

أحدهما: أنه عائد إلى الله، عز وجل، أي: مثل هداه في قلب المؤمن .

والثاني: أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام: تقديره: مثل نور المؤمن الذي في قلبه، كمشكاة. فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه [هود: 17] ، فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه، بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع، بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف.

انظر: "تفسير ابن كثير" (6/ 58).

وأيا ما كان مرجع الضمير في (نوره)، وهل النور في الآية هو نوره المخلوق، أو نوره الذي هو صفته سبحانه؛ فليس المراد بقوله ( مثل نوره ) أن هذا النور المذكور، يشبه في حقيقة ذاته، أو في صفاته : نور هذا المصباح المذكور؛ بل المراد به ضرب المثل الذي يقرب المعنى إلى الأذهان ، دون أن يلزم من ذلك : تشبيه ، ولا تمثيل في شيء من حقيقة الذات، ولا الصفات.

ونظير ذلك أن الله تعالى قد ضرب لنفسه مثلا ، في غير آية من كتابه العزيز؛ فقال تعالى في ذلك:  ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  النحل/75-76 .

قال مجاهد: المراد به الوثن والحق تعالى، يعني: أن الوثن أبكم، لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء، ولا يقدر على شيء بالكلية، فلا مقال، ولا فعال، وهو مع هذا كَل أي: عِيال، وكُلفة على مولاه، (أينما يوجهه) أي: يبعثه (لا يأت بخير) ولا ينجح مسعاه!!

(هل يستوي) مَن هذه صفاته، (ومن يأمر بالعدل) أي: بالقسط، فقاله حق وفعاله مستقيمة، (وهو على صراط مستقيم).

وبهذا قال السدي، وقتادة وعطاء الخراساني. واختار هذا القول ابن جرير.

انظر: "تفسير ابن كثير" (4/589).

فهل يقول عاقل: إن الله جل جلاله شبه نفسه بهذا المخلوق الذي رزقه الله رزقا حسنا ؟ أو بالعبد الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟!

إن هذا لا يدخل في الظن ولا الوهم؛ وإنما هو ضرب مثل لإيضاح المعاني، وتقريبها.

قال ابن القيم رحمه الله:  " والله سبحانه وتعالي سمّى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا يتلألأ ، قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35] ، وقد فُسِّر قوله : ... نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... الآية بكونه: مُنوِّر السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشْتُقَّ له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى.

والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين:

إضافة صفةٍ إلى موصوفها، وإضافة مفعولٍ إلى فاعله.

فالأول: كقوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ... [الزمر: 69]، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء المشهور: "أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني، لا إله إلا أنت" .

وفي الأثر الآخر: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات".

فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله كما أخبر تعالي أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.

وفي "معجم الطبراني" و"السنة" له وكتاب عثمان الدارمي، وغيرها، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه".

وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسَّرها بأنه هادي أهل السموات والأرض، وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها ".

ثم قال: " وقوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الآية [النور/ 35].

هذا مَثَلٌ لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أُبىُّ بن كعب وغيره.

وقد اختلف في مفسِّر الضمير في "نوره":

فقيل: هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي مثل نور محمَّد - صلى الله عليه وسلم -.

وقيل: مفسِّره المؤمن، أي مثل نور المؤمن.

والصحيح أنه يعود على الله عز وجل، والمعنى: مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده. وأعظم عباده نصيبًا من هذا النور رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا مع ما تضمنه عود الضمير إلى المذكور، وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم معنى ولفظًا.

وهذا النور يضاف إلى الله تعالى: إذ هو مُعطيه لعبده وواهبه إياه، ويضاف إلى العبد: إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحامل ومادة، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل.

فالفاعل: هو الله تعالى، مفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء.

والقابل: العبد المؤمن، والمحل: قلبه، والحامل: همته وعزيمته وإرادته، والمادة: قوله وعمله.

وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم.

وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان:

إحداهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذًا وأسلم من التكلُّف، وهي أن تُشَبَّه الجملة بِرُمَّتها بنور المؤمن؛ من غير تعرُّض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به، وعلى هذا عامَّة أمثال القرآن.

فتأمل صِفة "مشكاة" وهي: كُوَّة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء، قد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدُّرِّي في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمِّها وقودًا، من زيت شجرة في وسط القَرَاح لا شرقية ولا غربية بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة، والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مَثَلُ نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصَّه به.

والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصَّل.

فقيل: المشكاة: صدر المؤمن، والزجاجة: قلبه، وشبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته.

وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه، ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى، ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى، وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أرقُّها وأصلبها وأصفاها".

والمصباح: هو نور الإيمان في قلبه. والشجرة المباركة: هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق، وهي مادة المصباح التي يَتَّقِد منها. والنور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورًا على نور؛ ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي، فيريه عقله وفطرته وذوقه أن الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة، بل يتصادقان ويتوافقان، فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه الشبه الباطلة، والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات، التي يسميها أهلها القواطع العقليات، فهي في صدره كما قال الله تعالى:  أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) النور/40.

فانظر كيف انتظمت هذه الآيات طوائف بني آدم كلهم أتمَّ انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال.

فإن الناس قسمان: أهل الهدى والبصائر، الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها، فيظنها شيئًا له حاصل يُنتفع به وهي:  كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ  النور/39، 40 .

وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح الذين صدّقوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره، ولم يضيعوها بالشهوات، فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون.

أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله من الحكمة وفصل الخطاب، إن عندهم إلا نخالة الأفكار وزبالة الأذهان، التي قد رضوا بها واطمأنوا إليها، وقدّموها على السنة والقرآن، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أوجبه لهم اتباع الهوى ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان " . ... إلى آخر كلامه رحمه الله . انتهى من " اجتماع الجيوش الإسلامية "، عالم الفوائد (1/ 18 -  29).

وجمع الشيخ السعدي بيان الآية والمثل فقال:

" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ : الحسي ، والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه - الذي لولا لطفه، لأحرقت سبحات وجهه ، ما انتهى إليه بصره من خلقه - : نور، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة.

وكذلك النور المعنوي: يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور.

فلولا نوره تعالى، لتراكمت الظلمات، ولهذا: كل محل، يفقد نوره، فثم الظلمة والحصر، مَثَلُ نُورِهِ الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين، كَمِشْكَاةٍ أي: كوة فِيهَا مِصْبَاحٌ ، لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك .

الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ ، من صفائها وبهائها : كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي: مضيء إضاءة الدر. يُوقَدُ ذلك المصباح، الذي في تلك الزجاجة الدرية مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ أي: يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون، لا شَرْقِيَّةٍ فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار، وَلا غَرْبِيَّةٍ فقط، فلا تصيبها الشمس أول النهار، وإذا انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض، كزيتون الشام، تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فتحسُن وتطيب، ويكون أصفى لزيتها، ولهذا قال: يَكَادُ زَيْتُهَا من صفائه يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ فإذا مسته النار، أضاء إضاءة بليغة نُورٌ عَلَى نُورٍ أي: نور النار، ونور الزيت.

ووجه هذا المثل الذي ضربه الله، وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فطر عليها، بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان، أضاء إضاءة عظيمة، لصفائه من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية، فيجتمع له نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، نور على نوره.

ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كل أحد يصلح له ذلك، قال: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ممن يعلم زكاءه وطهارته، وأنه يزكي معه وينمو. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ ليعقلوا عنه ويفهموا، لطفا منه بهم، وإحسانا إليهم، وليتضح الحق من الباطل، فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة، فيعلمها العباد علما واضحا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فعلمه محيط بجميع الأشياء، فلتعلموا أن ضربه الأمثال، ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها، وأنها مصلحة للعباد، فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها، لا بالاعتراض عليها، ولا بمعارضتها، فإنه يعلم وأنتم لا تعلمون "  انتهى من " تفسير السعدي "  (568 - 569).

والله أعلم .

Icon