الفتاوى

استشكل قول الله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ).
أولا كنت أتصفح أحد المواقع ، وإذا بملحد يطعن في القرآن الكريم ، حيث يقول : مقتبسا من قولة تعالي : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، ويقول لذا لابد أن يكون الرسول من نفس الأمة ويتحدث لغتهم ، فكيف يدخل الله الصينيين والأفارقة جهنم وهو لم يرسل لهم رسولا منهم يتحدث لغتهم ؟

الإجابة

الحمد لله

أولا:

أرسل الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ، وليس إلى قومه فقط ، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على هذا دلالة قطعية لا احتمال فيها .

قال الله تعالى: قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا  الأعراف/158.

وقال الله تعالى:  تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا  الفرقان/1.

وقال الله تعالى:  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ  سبأ /28.

ثانيا:

وهذا الأصل لا يعارضه قول الله تعالى:

 وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ   إبراهيم/4.

لأن الله تعالى لم يقل: وما أرسلنا رسولا إلّا إلى قومه، وإنما قال :( إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ). لأن الرسول، وإن أرسل إلى قومه، وغير قومه؛ إلا أنه من المعلوم أنه سيبدأ في دعوة الناس إلى الله بقومه ، ثم يحمل أتباعُه الدعوة إلى سائر الناس ، ويترجمون لهم ما أنزل الله بلغتهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وما ذكروه من قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ).

إنما يتناول رسل الله ، لا رسلَ رسلِ الله، بل رسلُ رسلِ الله: يجوز أن يبلغوا رسالات الرسل ، بلسان الرسل إذا كان هناك من يترجم لهم ذلك اللسان، وإن لم يكن هناك من يترجم ذلك اللسان، كانت رسل الرسل تخاطبهم بلسانهم .

لكن لا يلزم من هذا أن يكونوا قد كتبوا الكتب الإلهية بلسانهم، بل يكفي أن يقرأوها بلسان الأنبياء عليهم السلام ، ثم يترجموها بلسان أولئك .

وهو سبحانه قال: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) ، ولم يقل : وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه .

بل محمد أرسل بلسان قومه ، وهم قريش ، وأرسل إلى قومه وغير قومه " انتهى من "الجواب الصحيح" (2 / 97 - 98).

وقد ذكر بعض العلماء أن من الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية ، مع أنه منزل لجميع الناس مع اختلاف لغاتهم ، أن ذلك ليتحقق اجتماع المسلمين على كتاب واحد ، بلا اختلاف ولا تنازع ، وليكون ذلك من حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من التحريف .

قال الشوكاني رحمه الله تعالى :

" وقد قيل: في هذه الآية إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس جميعا، بل إلى الجن والإنس ، ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة.

وأجيب بأنه ، وإن كان صلى الله عليه وسلم مرسلا إلى الثقلين كما مر، لكن لَمَّا كان قومه العرب، وكانوا أخص به وأقرب إليه ، كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم، ويوضحونه حتى يصير فاهما له كفهمهم إياه.

ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم، وبيّنه رسول الله لكل قوم بلسانهم، لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحا لباب التنازع؛ لأن كل أمة قد تدعي من المعاني في لسانها، ما لا يعرفه غيرها، وربما كان ذلك أيضا مفضيا إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون " انتهى من "فتح القدير" (3 / 129).

ثالثا:

قول هذا القائل : كيف يدخل الله الصينيين والأفارقة جهنم مع أنه لم يرسل إليهم رسولا بلغتهم ؟

فنقول : إننا لا نقول إن هؤلاء في النار – هكذا على سبيل العموم – وإنما نقول :

من لم تبلغه دعوة الإسلام منهم ، فكان جاهلا بالإسلام ، ولم تبلغه رسالة من رب العالمين ، ولم تقم عليه الحجة ، فهؤلاء معذورون ، وأمرهم في الآخرة إلى الله تعالى ، ولا نحكم عليهم بجنة أو بنار .

أما من بلغته دعوة الإسلام ، وترجم له القرآن ، وبين له الحق عن طريق الدعاة الذين يخاطبونه بلغته ، فهذا قد أقيمت عليه الحجة ، فإن لم يؤمن فهو في النار .

ولا يشترط لإيمان الإنسان بالقرآن أن يكون القرآن نزل بلغته ، فكما يترجم الإنسان الكتب العلمية وغيرها ، ويقبل ما فيها من حق ، ويستفيد مما فيها ، فلا يمتنع – عند العقلاء ، أن يترجم القرآن ويقبل الإنسان الحق الذي جاء به ، ويؤمن بالله ورسله إيمانا صحيحًا .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وقومه - صلى الله عليه وسلم - إليهم بعث أوَّلًا ، ولهم دعا أوَّلًا ، وأنذر أوَّلًا، وليس في هذا أنه لم يرسل إلى غيرهم، لكن إذا تبين لقومه لكونه بلسانهم، أمكن بعد هذا أن يعرفه غير قومه: إما بتعلمه بلسانهم، وإما بتعريف بلسان يفهم به.

والرجل يكتب كتاب علم ، في طب أو نحو أو حساب ، بلسان قومه ، ثم يترجم ذلك الكتاب، وينقل إلى لغات أخر، وينتفع به أقوام آخرون، كما ترجمت كتب الطب والحساب، التي صنفت بغير العربي ، وانتفع بها العرب وعرفوا مراد أصحابها، وإن كان المصنف لها أولا إنما صنفها بلسان قومه.

وإذا كان هذا في بيان الأمور التي لا يتعلق بها سعادة الآخرة ، والنجاة من عذاب الله؛ فكيف يمتنع في العلوم التي يتعلق بها سعادة الآخرة ، والنجاة من العذاب : أن يُنقل من لسان إلى لسان ، حتى يفهم أهل اللسان الثاني بها ما أراده بها المتكلم بها أولا ، باللسان الأول " انتهى من"الجواب الصحيح" (2 / 71).

رابعا:

من يعيش في هذا العصر لا يليق به أن يستشكل هذه الآية، وهو يرى أكثر المسلمين الآن من غير العرب، بل أهل العلم الذين يبينون للناس ما أنزل الله - كثير منهم أو أكثرهم من غير العرب، فالواقع قد بيّن أن لغة القرآن ليست عائقا لتبليغه .

والله أعلم.

Icon