الفتاوى

مصير أصحاب الأخدود
أنا أعمل إماما وخطيبا ، وكنت أتحدث عن أصحاب الأخدود ، فسألني رجل بعد الخطبة كيف كانت نهاية ملك أصحاب الأخدود ؟ وكيف أهلكه الله ؟ ولا يوجد عندي إجابة إلا أن الله يهلك الظالمين كما حدث مع فرعون وغيره ، فالسؤال : كيف كانت نهاية ملك أصحاب الأخدود ؟

الإجابة

الحمد لله  

أولًا :

من المفيد للمسلم بصفة عامة ، ولطالب العلم بصفة خاصة: أن يكون سؤاله وبحثه ونظره فيما يعود بالنفع عليه، وعلى من حوله ، في الدين والدنيا .

وهذا هو منهج نبينا صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  : " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا. قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ "رواه "البخاري" (3688)، وبوب عليه "النسائي" في "السنن الكبرى" (5/ 376): "إذا سئل العالم عما يكره" .

ومثل هذا مفيد للمعلم، والواعظ والخطيب: أن يرشد الناس، بتلطف، وحكمة: إلى السؤال عما ينفعهم، وترك تكلف ما لا فائدة لهم فيه.

يقول الإمام الطبري رحمه الله ، في التعقيب على خلاف المفسرين والرواة في الثمن الذي بيع به يوسف ، عليه السلام:

" والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنهم باعُوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحدَّ مبلغَ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يحتمل أن يكون كان عشرين  ويحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين  وأن يكون كان أربعين، وأقل من ذلك وأكثر، وأيُّ ذلك كان، فإنها كانت معدودة غير موزونة .

وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه. والإيمان بظاهر التنزيل فرضٌ، وما عَداه فموضوعٌ عنا تكلُّفُ علمه." انتهى، من "تفسير الطبري" (15/15-16).

وقد تكرر من إمام المفسرين، ابن جرير الطبري رحمه الله، نحو ذلك التقرير في مواضع من كتابه العظيم.

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (103889) .

ثانيًا :

"ورد خلاف بين السلف في تحديد أصحاب الأخدود ومكانهم، وقد ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أصحاب الأخدود الذين في اليمن، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشر في هذه القصة التي يذكرها للصحابة إلى هذه الآيات.

ولذا يقال: إن كل ما ذكر من أصحاب الأخاديد فإنه داخل في حكم هذه الآية، وبالأخص القوم الذين ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قصتهم، وهذا يكون من التفسير بالسنة؛ لأن المفسر استفاد من هذه القصة، المطابقة لخبر الآية؛ ففسر بها، والله أعلم"، انتهى من "تفسير جزء عم" ، د. مساعد الطيار (108).

ثالثًا :

لم نقف على حديث مرفوع يبين عذاب أصحاب الأخدود ، ومآل أمرهم. إلا أن بعض السلف ذكر أن عذابهم أن : " خَرَجَتِ النَّارُ إِلَى مَنْ عَلَى شَفِيرِ الْأُخْدُودِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَحْرَقَتْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ:  فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ  البروج/10، فِي الْآخِرَةِ  وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ البروج/10 ، فِي الدُّنْيَا .

انظر : "تفسير الطبري" (24/ 276).

وعَنِ الرَّبِيعِ، " فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [البرو 10] فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البرو 10] فِي الدُّنْيَا " ، انتهى من "تفسير الطبري" (24/ 281).

وقد أشار بعض المفسرين والمتكلمين على فوائد هذه القصة : إلى أن من فوائد إبهام عذاب الكفار في هذه القصة العظيمة، وعدم ذكر ما نالهم من عذاب الله في الدنيا: أن يُرد الناس، ويحال أمرهم على ما يكون من عدل الله ، وحسابه لعباده في الآخرة، فهب أنهم لم يصبهم شيء من العذاب، والبلاء العام في هذه الدار ـ الدنيا ـ ؛ فماذا كان ؟

إن هذه الدنيا ليست هي دار الجزاء، والحساب؛ بل هي دار عمل، وسعي ؛ وأما الجزاء الحقيقي، والحساب، والميزان: فإنما يكون في الآخرة؛ فإلى ذلك ينبغي أن يرد الناس، وعليه يجب أن يُحالوا.

وفي أمثال هذه القصص أيضا: تسلية للمؤمنين عما يصيبهم من البلاء ، أو العذاب، أو فوات النصر في هذه الدنيا، وأن الجزاء إنما يكون عند رب العالمين، في يوم اللقاء.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

" في هذه الآيات من العبر:

أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب، فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم.

وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانه.

فمثلاً نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول: سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين؟

نقول: يا أخي لا تستغرب؛ فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً فيمن سبق، يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر." انتهى  من "تفسير جزء عم" (130).

وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: "  شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ:  كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ  رواه البخاري (3612).

والله أعلم.

Icon