الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن كان المقصود بالصنيع المذكور هو جمع آيات معينة لأخذ الفأل منها، فهو داخل في حكم أخذ الفأل بالمصحف، الذي نهى عنه كثير من العلماء، قال ابن تيمية: وأما استفتاح الفأل في المصحف: فلم ينقل عن السلف فيه شيء، وقد تنازع فيه المتأخرون. وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعًا: ذكر عن ابن بطة أنه فعله، وذكر عن غيره أنه كرهه، فإن هذا ليس الفأل الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يحب الفأل، ويكره الطيرة. والفأل الذي يحبه هو: أن يفعل أمرًا، أو يعزم عليه، متوكلًا على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره -مثل أن يسمع: يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك، كما لقي في سفر الهجرة رجلًا: فقال: ما اسمك؟ قال: بريدة. قال: يا أبا بكر، برد أمرنا}-.
وأما الطيرة بأن يكون قد فعل أمرًا، متوكلًا على الله، أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة -مثل: ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك-، فيتطير، ويترك الأمر، فهذا منهي عنه، كما في الصحيح عن {معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله، منا قوم يتطيرون، قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم}، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصد الطيرة العبد عما أراد، فهو في كل واحد من محبته للفأل، وكراهته للطيرة، إنما يسلك مسلك الاستخارة لله، والتوكل عليه، والعمل بما شرع له من الأسباب، لم يجعل الفأل آمرًا له، وباعثًا له على الفعل، ولا الطيرة ناهية له عن الفعل، وإنما يأتمر وينتهي عن مثل ذلك أهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام، وقد حرم الله الاستقسام بالأزلام في آيتين من كتابه، وكانوا إذا أرادوا أمرًا من الأمور أحالوا به قداحًا مثل السهام أو الحصى أو غير ذلك، وقد علموا على هذا علامة الخير، وعلى هذا علامة الشر، وآخر غفل. فإذا خرج هذا فعلوا، وإذا خرج هذا تركوا، وإذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام. فهذه الأنواع التي تدخل في ذلك: مثل الضرب بالحصى، والشعير، واللوح، والخشب، والورق المكتوب عليه حروف أبجد، أو أبيات من الشعر، أو نحو ذلك مما يطلب به الخيرة، فما يفعله الرجل ويتركه ينهى عنها؛ لأنها من باب الاستقسام بالأزلام، وإنما يسن له استخارة الخالق، واستشارة المخلوق، والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبين ما يحبه الله ويرضاه وما يكرهه وينهى عنه. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وجاء في الذخيرة للقرافي: تنبيه: قال الطرطوشي: إن أخذ الفأل بالمصحف، وضرب الرمل، والشعر، ونحوه، حرام، وهو من باب الاستقسام بالأزلام، مع أن الفأل حسن بالسنة.
وتحريره: أن الفأل الحسن هو ما يعرض من غير كسب، مثل قائل يقول: يا مفلح، ونحوه، والتفاؤل المكتسب حرام، كما قاله الطرطوشي في تعليقه. اهـ.
وجاء في كفاية الطالب الرباني: (و) كان - عليه الصلاة والسلام - (يحب الفأل الحسن) ابن العربي: هكذا قال: الفأل بالهمزة، والجمع فؤول، وفي الصحيح: «قيل: يا رسول الله، وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم»، مثاله إذا خرج لسفر، أو عيادة مريض، ولم يقصد سماع الفأل، فسمع: يا غانم، أو يا سالم، أما إذا قصد سماع الفأل ليعمل عليه، فلا يجوز له؛ لأنه من الأزلام. اهـ.
قال العدوي في حاشيته: وفي معنى هذا مما لا يجوز فعله: استخراج الفأل من المصحف، فإنه نوع من الاستقسام بالأزلام، ولأنه قد يخرج له ما لا يريد، فيؤدي ذلك إلى التشاؤم بالقرآن. اهـ.
وعلى كل حال؛ فإن آيات القرآن العظيم كلها هي رسائل من الله سبحانه للعبد، ينبغي له أن يستشعر أنه المخاطب بها؛ ليتدبرها، ويعمل بها، قال الغزالي -في ذكر أعمال الباطن في التلاوة-: التخصيص: وهو أن يقدّر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمرًا أو نهيًا، قدّر أنه المنهي والمأمور، وإن سمع وعدًا أو وعيدًا، فكمثل ذلك، وكيف لا يقدّر هذا والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله خاصة، بل هو شفاء، وهدى، ورحمة، ونور للعالمين. فهذا القارئ الواحد مقصود، فما له ولسائر الناس؟ فليقدّر أنه المقصود، قال الله تعالى: وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن، فكأنما كلّمه الله. وإذا قدّر ذلك، لم يتخذ دراسة القرآن عمله؟ بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه؛ ليتأمله، ويعمل بمقتضاه؛ ولذلك قال بعض العلماء: هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربّنا عز وجل بعهوده، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات، والسنن المتبعات. اهـ. من إحياء علوم الدين.
وراجعي للفائدة الفتوى: 170677.
والله أعلم.