الفتاوى

منزلة تفسير الصحابة وهل هو بيان لمراد الله تعالى من كلامه؟
هل تفاسير الصحابة والتابعين وعلماء التفسير عموما يمكن اعتبارها هي مراد الله تعالى من الآيات القرآنية أو هي على نحو قريب من مراد الله تعالى؟ وجزاكم الله خيرا..

الإجابة

الحمد لله

إذا كان "التفسير" من كلام الصحابة ، ولم ينسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، -ولم يكن له حكم الرفع ولم يجمعوا عليه، كما سيأتي- فهو بيان لمراد الله تعالى بحسب ما ظهر لهم، أو لقائل ذلك منهم .

وهم ، رضوان الله عليهم : بشر ، ليسوا بأنبياء ولا معصومين ؛ وقد يصيبون ويخطئون، لكنهم لمعايشتهم لنزول الوحي، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم ما يحتاجون إليه، ومعرفتهم للغة العرب التي نزل بها القرآن، أتم المعرفة ، ولرسوخهم في مقامات العلم والإيمان = فهم لذلك كله : أقرب الناس لمعرفة المراد من كلام الله تعالى، لا سيما من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وعلمه التأويل) وهو ابن عباس رضي الله عنه .

وقد أخذ عنه جماعة من التابعين، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وغيرهم، وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية ، وأسأله عنها. ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره (1/ 7): " والغرض : أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة...

وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.

قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا جابر بن نوح، حدثنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود -: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله : إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا : لأتيته .

وقال الأعمش أيضا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.

ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)  .

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم قال قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: نعم ترجمان القرآن ابن عباس .

ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس .

ثم رواه عن بندار، عن جعفر بن عون، عن الأعمش به كذلك.

فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود: أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة.

وقد مات ابن مسعود، رضي الله عنه، في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعمّر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟

وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف عليٌّ عبدَ الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية: سورة النور، ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا".

ثم قال ابن كثير رحمه الله: " فصل: إذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة ، ولا وجدته عن الصحابة : فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر ، فإنه كان آية في التفسير .

كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا طلق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله .

ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .

وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق ابن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم .

فتذكر أقوالهم في الآية ، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافا، فيحكيها أقوالا ، وليس كذلك؛ فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه ، أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.

وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة؟ فكيف تكون حجة في التفسير؟

يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يُرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا ، فلا يكون بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويُرجع في ذلك إلى لغة القرآن ، أو السنة ، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك" انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (4/ 117):

" فإن قيل: فإذا كان هذا حكم أقوالهم في أحكام الحوادث، فما تقولون في أقوالهم في تفسير القرآن؟ هل هي حجة يجب المصير إليها؟

قيل: لا ريب أن أقوالهم في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم .

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع، قال أبو عبد الله الحاكم في مستدركه: وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع .

ومراده : أنه في حكمه ، في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا ، فلنا أن نقول هذا القول قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وله وجه آخر، وهو أن يكون في حكم المرفوع ؛ بمعنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين لهم معاني القرآن وفسره لهم ، كما وصفه تعالى بقوله: لتبين للناس ما نزل إليهم [النحل: 44] فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه ، فأوضحه له، كما سأله الصديق عن قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به [النساء: 123] فبين له المراد، وكما سأله الصحابة عن قوله تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الأنعام: 82] فبين لهم معناها، وكما سألته أم سلمة عن قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا [الانشقاق: 8] فبين لها أنه العرض، وكما سأله عمر عن الكلالة، فأحاله على آية الصيف التي في آخر السورة .

وهذا كثير جدا . فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها، وتارة بمعناها، وهذا أحسن الوجهين، والله أعلم" انتهى.

والمقصود من هذا : بيان أن الصحابة هم أعلم الناس بتفسير القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيا:

أما حجية قول الصحابي في التفسير، ووجوب الأخذ بقوله فيه، ففي ذلك تفصيل .

قالت الباحثة سناء عبد الرحيم عبد الله حلواني في بحثها "حجية قول الصحابي في التفسير":

" حكم تفسير الصحابي :

 المسألة فيها تفصيل:

أولاً : ما كان له حكم المرفوع ، لأنه لا مجال للرأي وإعمال العقل فيها ، بل لابد من النقل فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، ويشمل :

أسباب النزول: مثاله ما رواه جابر رضي الله عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)  .

قال الحاكم بعد أن ساق الحديث : هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها ، وليست بموقوفة ، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا ، فإنه حديث مسند .

الغيبيات: مثاله : ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر أحد قدره .

قصص الآيات وأحوال الناس الذي نزل فيهم القرآن ، فإنها من المنقول الذي لا سبيل للاجتهاد والرأي فيه .

مثاله : قصة إبراهيم عليه السلام مع النمروذ بن كنعان في قوله تعالى : (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر) .

ثانياً : ماله حكم الإسرائيليات: فإنه ينظر في الروايات :

فما كان موافقاً لما في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فحكمه القبول .

وإن كان مخالفاً للقرآن والسنة فحكمه الرد والرفض ولا تجوز روايته إلا لبيان زيفه وبطلانه.

 وإن لم يرد في القرآن ولا في السنة ما يؤيده أو يخالفه فحكمه التوقف فيه .

 ثالثاً : الاجتهاد: إذا أجمع الصحابة على قول واحد في تفسير آية ، فيكون قولهم حجة يجب قبوله. وإذا وقع بينهم خلاف في تفسير آية : فلا يكون قول أحدهم حجة على الآخر ؛ بل لابد من العمل بالمرجحات ، والأخذ بدليل صالح للترجيح " انتهى من:

https://uqu.edu.sa/sahalawani/10153

وأما التابعون ومن بعدهم، فإن أجمعوا على التفسير، إجماعا صحيحا : فالحجة هي إجماعهم، كما تقدم في النقل عن ابن كثير، ويصح الجزم حينئذ بأن كلامهم بيان لمراد الله تعالى.

وإن اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على بعض، ولزم طلب الدليل المرجح.

والله أعلم.

Icon