الفتاوى

تفسير (الجسد) في قوله تعالى: ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب )
قال تعالى : (لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) ص/34 ، آمل منكم توضيح هذه الآية ؛ لأن التفاسير كثيرة لهذة الآية ، ولا تتفقق مع العقل .

الإجابة

الحمد لله 

أولًا:

الجسد في هذه الآية ، على قول المتقدمين من المفسرين : (شيطان) .

قال الطبري رحمه الله : " يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ولقد ابتُلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا : شَيْطَانًا ، مُتَمَثِّلًا بِإِنْسَانٍ ... وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ " انتهى من "تفسير الطبري" (20/87) .

وممن ورد عنه هذا حمل الجسد على الشيطان : ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم.

انظر: "تفسير الطبري" (21/ 196- 199 )، و"تفسير ابن أبي حاتم" (10/ 3241 - 3243 ).

يقول الدكتور مساعد الطيار: " فالجسد - كما ورد عن مفسري السلف - هو الشيطان الذي تسلط على ملك سليمان عليه السلام، وهذا القدر من القصة له ما يشهد له من جهة وقوعه كوناً، فأيوب عليه السلام يقول: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41] فقد مسَّه الشيطان وتسلط عليه، والرسول صلّى الله عليه وسلّم سُحر، والسِّحرُ من الشيطان، وهذا فيه تسلط، لكنه تسلطٌ في أمور مادية دنيوية، وليس تسليطاً على الجانب النبوي...

ويجوز أن نذكر هذا القدر من هذه الرواية من باب الاحتمال، وليس من باب الثبوت ، ولا يخالف هذا عصمة سليمان عليه السلام. 

وما عدا ذلك مما في القصة من التفاصيل فإنه لا يمكن إثباتها إلا بحجة من الشارع .

وبهذا نفرق بين إثبات أصل القصة ، وإثبات تفاصيلها؛ كمُدَّةِ هذا التسلُّط ومقداره، فهذا لا يمكن أن يُثبت من الرواية الإسرائيلية الموجودة إطلاقاً، لذا يدخل فيما لا يصدق ولا يكذب.

أما إذا كان مما يُتفَق عليه : أنه يخالف ما عُرف من حال الأنبياء ، كما يذكر في الرواية هذه أن الشيطان تسلَّط على نساء سليمان بنكاحهنَّ ؛ فهذا مما يُعلم بطلانه؛ لمخالفته لحال الأنبياء، وهذا مما وقع الإجماع على إنكاره.

ونحن نحتاج إلى التعامل مع القصص بطريقة علمية لا عاطفية " انتهى من " شرح مقدمة ابن جزي" (121).

ثانيًا:

قد يرد في بعض الروايات الإسرائيلية ما يتفق الجميع على أنه قادح في الرواية، وأنه كذب بلا ريب، وفي مثل هذه الحال يعترض المفسر على مثل هذه الرواية، وإن كان الناقل لها من السلف لم يتعرض لذلك، إما مكتفيًا بوضوح نكارتها، وإما متأوِّلًا لجواز التحديث بمثل هذا، إذ مثل هذه الجزئية التي فيها خلل لا تقدح في أصل القصة عنده.

ولذلك قال الإمام ابن كثير في تفسير الآيات، وهي قوله تعالى: ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) :

" يقول تعالى: ولقد فتنا سليمان أي: اختبرناه ، بأن سلبناه الملك مرة، وألقينا على كرسيه جسدا قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: يعني شيطانًا.

ثم أناب أي: رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته " .

فأثبت أصل القصة، والتي ترفع الإبهام عن الآية، وأقرها .

ثم أنكر التفاصيل التي تقدح في سليمان عليه السلام، فقال: بعد ذكره لقصص الآية، وذكر أشدها نكارة:

" إسناده إلى ابن عباس قوي ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ، ولهذا كان في السياق منكرات ، من أشدها ذكر النساء ؛ فإن المشهور أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه ، تشريفا وتكريما لنبيه صلى الله عليه وسلم .

وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين ، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب . والله أعلم بالصواب " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/ 69).

فقد تبين أن مراد من ذكر القصة من السلف : العناية بأصلها ، لا التسليم بكل تفاصيلها .

وبعض السلف يكتفون بظهور نكارتها ، أو يترخصون بالتحديث عن أهل الكتاب في مثل ذلك .

ثالثا :

قد تبين أن هذه الإسرائيليات : ليس منها شيء تقوم به الحجة في دين الله ، وإنما قصاراها أن يُحدث بها ، على ما سبق ذكره .

ولذلك : من أهل العلم من لم يفسر الآية بها أصلا ، ولم يرها حجة في المقام ، بل أعرض عنها لنكارتها ، أو غرابة ما فيها من القصص والروايات .

واختار غير واحد من أهل العلم : أن المراد بـ"الجسد" هنا : الغلام الذي ولد لسليمان عليه السلام ، غير كامل ، لما نسي أن يقول : " إن شاء الله " .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ( قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ " قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ ) رواه البخاري (5242) ، ومسلم (1654) .

قال الإمام أبو حيان رحمه الله :

" نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَإِلْقَاءِ الْجَسَدِ أَقْوَالًا يَجِبُ بَرَاءَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا، يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِمْ، وَهِيَ مِمَّا لا يحل نقلها، وهِيَ مِنْ أَوْضَاعِ الْيَهُودِ وَالزَّنَادِقَةِ .

وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ الْفِتْنَةَ مَا هِيَ، وَلَا الْجَسَدَ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ.

وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ كَوْنُهُ لَمْ يَسْتَثْنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةٍ .. " انتهى من "البحر المحيط" (9/155) .

وقال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :

" فإذا علمت هذا فاعلم أن هذا الحديث الصحيح بين معنى قوله تعالى: ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ) ، الآية .

وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله إن شاء الله .

وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصف إنسان .

وأن ذلك الجسد ، الذي هو نصف إنسان : هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته ، في قوله تعالى: وألقينا على كرسيه جسدا الآية .

فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: ( ولقد فتنا سليمان ) الآية، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم ، وجلس على كرسي سليمان، وطرد سليمان عن ملكه ؛ حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر ، مطرودا عن ملكه ، إلى آخر القصة لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة.

فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة.

والظاهر في معنى الآية هو ما ذكرنا، وقد دلت السنة الصحيحة عليه في الجلة ، واختاره بعض المحققين، والعلم عند الله تعالى." انتهى من "أضواء البيان" (3/254) .

وقال العلامة ابن عاشور ، رحمه الله ، عن هذا القول : إنه " أظهر أقوالهم .. " ، كما في "التحرير والتنوير" (23/260) ، واستظهره أيضا قبله ، الإمام البيضاوي في "تفسيره" (5/46) ، والعلامة أبو السعود في "تفسيره" (7/226) ، وغيرهم .

وفي "التفسير الوسيط" ، لعلماء الأزهر (8/500) : أن هذا القول : " خير ما ورد في تفسير هذه القصة .. " انتهى .

وأما الإمام أبو محمد ابن حزم ، رحمه الله ، فقد رد الروايات الإسرائيلية جميعها ، واقتصر على بيان معنى "الفتنة" ، وأنها : اختبار الله لنبيه سليمان عليه السلام ، بما اختبره ، وابتلاه به ، دون أن يقطع في "ماهية" هذه الفتنة ، وما وقع به الاختبار بشيء ؛ إذ لم يصح بتعيينه خبر تقوم به الحجة ، أو يجب التسليم به :

" فتْنَة الله تَعَالَى لِسُلَيْمَان : إِنَّمَا هِيَ اختباره ، حَتَّى ظهر فَضله ؛ فَقَط !!

وَمَا عدا هَذَا : فخرافات ، وَلَدهَا زنادقة الْيَهُود ، وأشباههم .

وَأما الْجَسَد الْملقى على كرسيه : فقد أصَاب الله تَعَالَى بِهِ مَا أَرَادَ !!

نؤمن بِهَذَا كَمَا هُوَ ، ونقول : صدق الله عز وَجل ؛ كل من عِنْد الله رَبنَا .

وَلَو جَاءَ نَص صَحِيح فِي الْقُرْآن ، أَو عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ، بتفسير هَذَا الْجَسَد : مَا هُوَ ؛ لقلنا بِهِ .

فَإِذ لم يَأْتِ بتفسيره ، مَا هُوَ ، نَص ، وَلَا خبر صَحِيح ؛ فَلَا يحل لأحد القَوْل بِالظَّنِّ ، الَّذِي هُوَ أكذب الحَدِيث فِي ذَلِك ، فَيكون كَاذِبًا على الله عز وَجل .

إِلَّا أننا لَا نشك الْبَتَّةَ فِي بطلَان قَول من قَالَ : إنه كَانَ جنيا ، تصور بصورته !!

بل نقطع على أَنه كذب ، وَالله تَعَالَى لَا يهتك ستر رَسُوله صلى الله عليه وسلم هَذَا الهتك .

وَكَذَلِكَ نبعد قَول من قَالَ : إنه كَانَ ولدا لَهُ ، أرْسلهُ إِلَى السَّحَاب ليربيه !!

فسليمان عَلَيْهِ السَّلَام : كَانَ أعلم من أَن يُربي ابْنه ، بِغَيْر مَا طبع الله عز وَجل بِنية الْبشر عَلَيْهِ، من اللَّبن وَالطَّعَام .

وَهَذِه كلهَا خرافات مَوْضُوعَة مكذوبة ؛ لم يَصح اسنادها قطّ !! " انتهى من "الفصل في الملل والنحل" (4/15) .

والله أعلم .

Icon