الإجابة
الحمد لله
لا تعارض بين قول الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]، وكون بعض الآيات يعسر فهمها وتحديد تأويلها إلا على
العلماء، وبيان ذلك من وجوه:
الأول:
تيسير القرآن هو من حيث العموم ، تيسير أغلبي إجمالي ، يعني قرب معانيه ومقاصده من
القارئ العادي على وجه الإجمال ، وليس على وجه العموم التام لجميع آياته وتراكيبه ،
بل فيه من الآيات المتشابهات التي لا يعلمها إلا العلماء ، كما قال تعالى: ( هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )آل عمران/ 7.
وفيه ما يحتاج إلى حزمة من العلوم التأسيسية لبلوغ فهم مرامه وحقيقة مضمونه ، كعلوم
اللغة ، والناسخ والمنسوخ ، وأصول الفقه ، ونحوها، ولكن الأعم الأغلب منه واضح
المقصود ، وظاهر المراد من السياق.
فلا مانع أن نحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاسير بعض الآيات ، ولا يتناقض ذلك مع "تيسير
القرآن".
الثاني:
تيسير "جميع آيات القرآن" هبة من الله تعالى لمن يأخذ بأسباب الفهم وطرائق المعرفة
، ويدرس العلوم المساعدة ، ويطلب العلم على وجهه الصحيح من أهل العلم ، ومن مؤسسات
البحث الكبرى، كما روي عنه عليه الصلاة والسلام: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/395) وحسنه ابن حجر في "فتح الباري" (1/194)
، والألباني في "الصحيحة" (رقم342) .
أما من لا يسلك العلم من أبوابه، ولا يعتبر أدوات العلم وآلاته، فمثله حري أن لا
ييسره الله عليه، وسيجد – بالتأكيد - في آياته ما يستغلق عليه ولا يستمكن منه.
روى الدارمي في "السنن" (1/ 364) بسنده عن مطر الوراق: "ولقد يسرنا القرآن للذكر
فهل من مدكر [القمر: 17] قال: هل من طالب خير فيعان عليه؟ "
فإذا لم يأخذ – غير المختصين – بهذه الأسباب ، فمن الطبيعي أن يحتاجوا إلى سؤال
العلماء الذين أخذوا بهذه الأسباب ، فأصبحت آيات القرآن الكريم كلها ميسرة لهم.
الثالث:
تيسير "جميع آيات القرآن" : مكرُمَة من الله سبحانه لمن يعمل بالتقوى ، ويصدق في
تلقيه القرآن بالعمل والإخلاص والصدق مع الله سبحانه، ويخلص في تدبره وتأمله ،
فيصدقه الله بأن يفتح عليه ما يستغلق على عامة الناس ، وهو ما يُشعر به سياق قول
الله سبحانه: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
) محمد/ 24 .
أما من لا يقصد إلا السمعة أو الرياء أو المماراة في تفهمه للقرآن، ويخلط عملا
صالحا بآخر سيئا، وتشوب نيتَه بعضُ أغراض الدنيا وأعراضها، فمثله حري أيضا أن لا
ييسره الله عليه.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"قال تعالى: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )
[القمر:32] . والآيات في هذا كثيرة، تدل على أن من تدبر القرآن ، لكن بهذه النية،
وهي طلب الهدى منه ؛ لا بد أن يصل إلى النتيجة، وهي تبين طريق الحق .
أما من تدبر القرآن ليضرب بعضه ببعض ، وليجادل بالباطل ، ولينصر قوله ؛ كما يوجد
عند أهل البدع وأهل الزيغ ، فإنه يعمى عن الحق والعياذ بالله ؛ لأن الله تعالى يقول:
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ ) [آل عمران: 7] ؛ على تقدير [أما] ؛ أي: وأما الراسخون في العلم؛ فـ (
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) [آل عمران:7] ، وإذا قالوا
هذا القول؛ فسيهتدون إلى بيان هذا المتشابه، ثم قال: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا
أُولُو الْأَلْبَابِ ) [آل عمران: 7].
وقال تعالى: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ
مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) [فصلت: 44]" .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (8/ 391) .
وهكذا، من يقصر في تجويد النية وتحسين المقصد ، نقص من علمه بالقرآن بقدر هذا
التقصير.
الرابع:
قال كثير من العلماء إن التيسير هنا تيسير القراءة والحفظ ، لا تيسير الفهم
والمعرفة. كما علق البخاري في "صحيحه" (6/ 143) قول مجاهد: (يسرنا): هوَّنَّا
قراءته.
وقال ابن قتيبة رحمه الله:
" ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) أي: سَهَّلناه للتلاوة. ولولا ذلك:
ما أطاق العبادُ أن يَلْفِظوا به ، ولا أن يستَمِعوا [له]" انتهى من " غريب القرآن"
(ص: 432) .
وقال القاضي عياض رحمه الله:
"(ولقد يسرنا القرآن للذكر) وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم ، فكيف الجماء
على مرور السنين عليهم .. والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة " .
انتهى من "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (1/ 540) .
ويقول ابن عطية رحمه الله:
"(يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) معناه: سهلناه وقربناه. و(الذكر): الحفظ عن ظهر قلب، قال
ابن جبير: لم يُستظهر من كتب الله سوى القرآن.
قال القاضي أبو محمد: يُسِّر بما فيه من حسن النظم وشرف المعاني ، فله لَوْطة
بالقلوب ، وامتزاج بالعقول السليمة" انتهى من "المحرر الوجيز" (5/215) .
وهذا الوجه يعني أن حفظ القرآن ـ أو تلاوته ـ هو الميسر على من أخذ بأسباب الحفظ ،
أما استغلاق بعض المعاني والتفاسير : فهذا شأن واقع ومحتمل لا يتعارض مع الآية
الكريمة.
خامسا:
تيسير القرآن المقصود به هنا هو تسهيل الاتعاظ والاعتبار، أي فهم العظات والعبر من
قصص الأولين، وأخبار الأنبياء عليهم السلام، وأحوال الأمم السالفة، وليس المقصود
تيسير الغوص في أسرار جميع الآيات وما فيها من دقائق المعاني وعميق الإشارات
والأحكام.
والدليل على ذلك هو سياق الآية الكريمة عن قصص الأنبياء وما أصاب أقوامهم نتيجة
كفرهم وعنادهم ، قال تعالى: ( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ.
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ
نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ.
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر/ 13-22.
وقال سبحانه : ( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ
مُحْتَضَرٌ. فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ. فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا
إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ. نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ
نَجْزِي مَنْ شَكَرَ. وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ.
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ. وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ. فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر/
28 – 40 .
يقول الإمام الطبري رحمه الله:
"وقوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) يقول تعالى ذكره: ولقد سهَّلنا
القرآن؛ بيَّناه وفصلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ ، وهوّناه .
وقوله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول : فهل من معتبر متعظ ، يتذكر ، فيعتبر بما فيه
من العبر والذكر" انتهى من "جامع البيان" (22/584) .
وقال أيضا:
"وقوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول
تعالى ذكره: ولقد سهَّلنا القرآن للذكر لمن أراد التذكر به، فهل من متعظ، ومعتبر به،
فينزجر به عما نهاه الله عنه إلى ما أمره به وأذن له فيه" انتهى من "جامع البيان"
(22/600) .
ويقول الإمام الباقلاني رحمه الله:
"فأما قولُه في مواضعَ من هذهِ السورة: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، فإنّه تعالى إنما قال ذلك لأنه أودع في القرآنِ أقاصيصَ
الأولينَ وسيرَ المتقدمين ، وما كان من تفضله على المؤمنين وإهلاكه للكافرينَ بضروبِ
الهلاكِ والانتقامِ، وقالَ عقيبَ كل قصةٍ من تلكَ القصص: ولقد يسرنا لكم قراءةَ
القرآن وحفظَ القصصِ المتغايرةِ التي أودعناها فهل من مدكر، ومتعظٍ بتيسيرنا لذلكَ
وسماعِه وحفظِه له...
وكذلك لما أودعَ اللهُ سبحانه كل شيءٍ من القرآن وموعظةً وقصةً غير الأخرى ، جازَ
أن يقول: ولقد يسَّرنا القرآنَ الذي فيه ذكرُ هذه القصة ، فهل من مدّكر بها ؟ ثم
يقول: ولقد يسَّرنا أيضا القرآنَ الذي فيه ذكرُ القصة الثانية والثالثة وما بعدَها
، فهل من مدكر بذلك، وإذا كان هذا كذا ، لم يكن ذلكَ من المعنى والتكرار بسبيل"
انتهى من "الانتصار للقرآن" (2/ 806) .
ويقول الزمخشري رحمه الله:
"(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي: سهلناه للادكار والاتعاظ ، بأن
شحناه بالمواعظ الشافية، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد. فَهَلْ مِنْ متعظ" انتهى من
"الكشاف" (4/435) .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"يَسَّرْنَا أي: سهلنا. لِلذِّكْرِ قال بعضهم: للحفظ، وأن القرآن ميسر لمن أراد أن
يحفظه، وقيل: المراد بالذكر: الادكار والاتعاظ، أي: أن من قرأ القرآن ليتذكر به
ويتعظ به سهل عليه ذلك، واتعظ وانتفع.
وهذا المعنى أقرب للصواب، بدليل قوله: ( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ، أي: هل أحد يدكر
، مع أن الله سهل القرآن للذكر؟! أفلا يليق بنا وقد يسر الله القرآن للذكر أن نتعظ
ونتذكر؟! بلى. هذا هو اللائق فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" انتهى من "لقاء الباب المفتوح"
(183/ 7، بترقيم الشاملة آليا) .
فهذا الوجه يعني : أن الادكار والاعتبار هو المقصود بالتيسير، وهذا يقع لكل من سمع
قصص القرآن ، وليس المقصود تيسير فهم دقائق القرآن وأحكامه.
سادسا:
قال بعض العلماء ما حاصله : التيسير هنا هو على مجموع الأمة، لا على جميعها، أي أن
الأمة كلها لا يمكن أن يغيب عنها شيء من فهم القرآن، وما فيه من أحكام وعبر وعظات،
أما على بعض الأفراد فيمكن أن يغيب.
يقول القشيري رحمه الله:
"يسّرنا قراءته على ألسنة الناس، ويسّرنا علمه على قلوب قوم ، ويسّرنا فهمه على
قلوب قوم، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم ، وكلّهم أهل القرآن، وكلّهم أهل الله وخاصته"
.
انتهى من "لطائف الإشارات" (3/ 497) .
والخلاصة، أننا إذا فهمنا الآية الكريمة على أحد الأوجه السابقة ، كما فهمها
العلماء، تبين لنا أنها لا تعارض إطلاقا حاجتنا إلى العلماء في تفسير كثير من
الآيات الكريمات.
والله أعلم.