الفتاوى

من هو الذي ينشأ في الحلية ؟
في أحد المواقع الإسلامية ، تم تفسير حديث ( ناقصات عقل ودين ) كما سيرد في الكلام الآتي: " يبين أن المرأة لا تقل في عقلها عن الرجل ، من حيث إنها ناقشت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنها جزلة ، أي : ذات عقل وافر . ومن حيث أن الواحدة منهن تَذهب بعقل اللبيب ، أي الوافر العقل . فكيف تَذهب بعقله إذا لم تكن أذكى منه ، أو أنه ناقص عقل على أقل الاحتمالات . بالإضافة إلى ذلك فإن الإسلام يعتبر أن المرأة والرجل سواءٌ أمام التكاليف الشرعية ، من حيث الأداء والعقوبة ، فلو كانت المرأة ناقصة عقل ، فكيف يكون أداؤها وعقوبتها بنفس المستوى الذي للرجل ، فهذا ينافي العدل الذي يتصف به الله ، وينادي به الإسلام ، فناقص العقل لا يُكلَّف بمثل ما يكلف به من هو أكمل منه عقلاً ، ولا يُحاسب بنفس القدر الذي يُحاسب به ، على فرض أن الرجل أكمل عقلاً من المرأة " وهذا التفسير أوضح لي الأمر ، لكن الإشكالية هنا : عن قتادة ، قوله : ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : الجواري يسفههنّ بذلك ، غير مبين بضعفهنّ . ثنا ابن ثور، عن قتادة : وأما قوله : ( وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) يقول : قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها . كيف يكون معنى الآية الكريمة تسفيه النساء ، وأن حجتها على نفسها ، بينما أثبت تفسير الحديث عكس ذلك تماما . وفي بعض التفسيرات الأخرى حسب ما أذكر يقال : كيف تجعلون أدنى الجنسين بنات لله . ولو كانت الآية المقصود بها النساء ، فلِمَ لَمْ يقل الله عز وجل : ( أو من تنشأ في الحلية وهي في الخصام غير مبين ) وأخيرا ، هناك تفسير للآية في مقطع على اليوتيوب ، أن المقصود به هم الكفار الذين نسبوا لله البنات ، وهم في الخصام غير مبينين لحجتهم ، والحلية لها تفسير آخر ؛ لأنه لم يتبعها كلمة تلبسونها ، تفسير صحيح ؟

الإجابة


الحمد لله
اختلف المفسرون في المقصود بقول الله عز وجل : ( أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) الزخرف/18، على قولين :
القول الأول :
المقصود النساء اللاتي يُنشأن على لبس الزينة والحلي ، وهن لضعفهن وحيائهن لا يتمكن من إقامة حجتهن ، ولا يقدرن على الحجاج والخصام .
وهذا قول جماهير المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، ثبت عن مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، كما أسنده عنهم الإمام الطبري في " جامع البيان " (21/579)، واستقرت عليه معظم التفاسير المطبوعة ، المختصرة والموسعة .
وليس في هذا القول تسفيه للنساء ، ولا تقليل من شأنهن وقدرهن ، وإنما مرتكزه : جبلة الحياء الذي خلقت عليه المرأة ، وإيثارها اجتناب الجدال والخصام ، كما هو مركوز في فطرتها وطبيعتها التكوينية ، وهذا ثناء عليها ، واعتبار للقيمة التي تحوزها في تركيبها .
وقد نفى رب العزة عن نفسه اتخاذ الصاحبة والولد مطلقا ، فقال سبحانه : ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ) الجن/ 3 .
فقد تنزه سبحانه عن ذلك : لأنه يتنافى وخالقيته وأزليته ووحدانيته وصمديته ، وليس لأن الزوجة والولد نوعٌ ناقصٌ محتقرٌ بين أنواع المخلوقات ، فإن مثل ذلك كمال في حق المخلوق ، ونقص في حق الخالق سبحانه ، ولم يستلزم ذلك في دلالة اللغة أو الشرع التنقص من الزوجة والأولاد عموما ، فكذلك الشأن في هذه الآية الكريمة الواردة في السؤال ، لا تستلزم نسبة الاحتقار لجنس الإناث .
القول الثاني :
المقصود الأوثان والأصنام التي يصنعها الكفار من ( الحلية ) الذهب والفضة ، وهي لا تملك سمعا ولا بصرا ولا نطقا ، فلا تستطيع أن تُبين أو تعرب عن نفسها .
قال ابن زيد :
" هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب ، يعبدونها ، هم الذين أنشئوها ، ضربوها من تلك الحلية ، ثم عبدوها ( وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : لا يتكلم ، وقرأ (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) " انتهى من " جامع البيان " (21/580)

وبعد التأمل في ما يمكن أن يستدل له لكلا القولين ، يتبين أن الراجح هو القول الأول ، إذ يمكن الاستدلال له بدليلين ظاهرين :
الدليل الأول :
أنه يعضده سياق الآيات ، فهو يتحدث عن نظرة المشركين إلى الأنثى من الجهة العقائدية ، حيث جعلوهن بنات الله ، ومن الجهة المجتمعية حيث نسبوا إليهن النقص والعيب والعار ، وهذا سياق الآيات : ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ . وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ . أَوَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ . وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ) الزخرف/16-19.
ولا شك أن تفسير الآية بما يناسب السياق ، ويتوافق معه : أولى من قطع معناها عن سِباقها ولِحاقها .
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
" أولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك الجواري والنساء ؛ لأن ذلك عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ، وقلة معرفتهم بحقه ، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل ، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم ، والمنعم عليهم النعم التي عددها في أول هذه السورة ؛ ما لا يرضونه لأنفسهم ، فإتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له، أشبه وأولى من إتباعه ما لم يجر له ذكر " انتهى من " جامع البيان " (21/580) .
وقال أبو إسحاق الزجاج رحمه الله :
" الأجود أن يكون : يعني به المؤنث " انتهى من " معاني القرآن " (4/407) .
ولو رجحنا القول الثاني الذي يقصد الأوثان ، لتخللت هذه الأوثان في سياق آيات قبلها تتحدث عن الإناث ، وآيات بعدها تتحدث عن الإناث أيضا في عقائد المشركين ، وهو انقطاع في المعنى والسياق لا يليق ، لذلك كان القول الأول هو الأرجح .
الدليل الثاني :
قوله تعالى : ( وهو في الخصام غير مبين ) ، فالأنثى تخاصم ، ولكنها لا تظهر في حجتها ولا في قوة خصامها .
أما الأوثان فلا يخاصمون أبدا ، لا خصاما مبينا ، ولا غير مبين .
يقول أبو حيان الأندلسي رحمه الله :
" ويبعد هذا القول [يعني القول الثاني] قوله : ( وهو في الخصام غير مبين ) ، إلا إن أريد بنفي الإبانة : نفي الخصام ، أي : لا يكون منها خصام " .
انتهى من " البحر المحيط في التفسير " (9/ 363) .

وأما الاستدلال على ترجيح القول الثاني بأن الضمير في قوله تعالى ( وهو في الخصام ) للمذكر ، وهذا لا يناسب تفسير الآية بالإناث ؛ فهذا استدلال خاطئ من جهة اللغة وقواعدها ، ولم يحتج به ( ابن زيد ) رحمه الله .
فالضمير ( هو ) يعود على ( من ) الموصولة في أول الآية ( أَوَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ )
و ( من ) الموصولة يجوز أن يعود الضمير عليها بصيغة التذكير ، باعتبار أن لفظ ( من ) مذكر ، حتى لو كان معناها هو المؤنث ، فالعرب قد تقصد تذكير اللفظ ولا تلتفت للمعنى .
ويجوز أن يعود الضمير بصيغة التأنيث ، إذا كان معناها يدل على الأنثى .
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" تذكير ضمير ( وهو في الخصام ) مراعاةً للفظ ( مَن ) الموصولة " .
انتهى من " التحرير والتنوير " (25/182) .
ويشبه هذا أيضا : (مَنْ) الشرطية ، فإن لفظها مذكر ، وقد يكون مدلولها مؤنثا .
تأمل معنا قول الله عز وجل : ( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ) الأحزاب/31 ، لماذا استعمل صيغة التذكير في الفعل ( يقنت ) ، رغم أن ( مَن ) المقصود بها هنا أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ؟
وجواب ذلك ، هو ما ذكرناه آنفا من أن ذلك أمر معروف ، شائع في لغة العرب . والملحظ فيه تذكير لفظ ( مَن ) ؛ بل هذا هو الكثير المستعمل في القرآن .
يقول الأخفش رحمه الله :
" ( يَقْنُتْ ) فجعله على اللفظ ؛ لأن اللفظ في ( مَن ) مذكّر ، وجعل ( تَعْمَلْ ) و ( نُؤْتِهَآ ) على المعنى " انتهى من " معاني القرآن " (1/37) ، وانظر " معاني القرآن " للزجاج (4/228) .
ويقول ابن خالويه :
" ذكّر على لفظ ( مَن ) وهو يريد نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( وتعمل صالحا ) فأنّث " انتهى من " ليس في كلام العرب " (ص220) .
ويقول الزمخشري رحمه الله – عن الاسم الموصول ( من ) -:
" توقع على الواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث . ولفظها مذكر ، والحمل عليه هو الكثير .
وقد يحمل على المعنى . وقرئ قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ) [الأحزاب: 31]، بتذكير الأول ، وتأنيث الثاني .
وقال تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) [يونس: 42]. وقال الفرزدق : نكن مثل من يا ذئب يصطحبان " انتهى من " المفصل في صنعة الإعراب " (ص: 187).
وانظر " معاني القرآن " للفراء (2/111) ، " الأصول في النحو " للسراج (2/396) .
وشرح كلام الزمخشري هذا العلامة ابن يعيش رحمه الله فقال :
" اعلم أن ( مَنْ ) لفظُها واحدٌ مذكرٌ ، ومعناها معنى الجنس لإبهامها ، تقع على الواحد والاثنين والجماعة ، والمذكر والمؤنث .
فإذا وقعتْ على شيء من ذلك ، ورددتَ إليها الضميرَ العائد من صلتها ، أو خبرِها على لفظها نفسِها ، كان مفردًا مذكّرًا ؛ لأنه ظاهرُ اللفظ ، سواء أردتَ واحدًا مذكرًا ، أو مؤنثًا ، أو اثنين ، أو جماعةٌ .
وإن أعدتَ الضمير إليها على معناها ، فهو على ما يقصِده المتكلمُ من المعنى .
فأمّا ما أُعيد إليه على اللفظ فنحو قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ )، وقوله : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا )، ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )، وعليه أكثرُ الاستعمال ...
وأما المؤنّث ، فنحو قولهم فيما حكاه يونس : " مَنْ كانت أُمَّك "، أُنّث " كَانَتْ " حيث كان فيها ضميرُ " مَنْ " وكان مؤنثًا ؛ لأنه هو الأمُّ في المعنى .
ومن ذلك قراءةُ الزعْفَراني ، والجَحْدَري : ( وَمَنْ تَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا )، بالتاء فيهما ، حيث أراد واحدة من النساء ، جعل صلته ، إذ عني المؤنّث : كصلة "التي". وقرأ حَمزَةُ والكِسائي: ( يَقْنُتْ ويعْمَلْ ) بالياء على التذكير حملًا على اللفظ فيهما .
وقرأ الباقون من السبعة : ( يَقْنُتْ ) بالتذكير على اللفظ ، و ( تَعْمَلْ ) بالتأنيث على المعنى " انتهى من " شرح المفصل لابن يعيش " (2/ 415) .

وهذا الجواب اللغوي - كما ترى – دقيق قد يخفى مثله على من يتجرأ على التفسير ، ويتحدث فيه من منطلق آرائي محض ، وليس من منطلق موضوعي ، أو تأصيل علمي ، أو تأويل مأثور عن العلماء الأولين .
وأما باقي ما ورد في السؤال ، في تفسير حديث ( ناقصات عقل )، وقضية مساواة المرأة بالرجل ، فقد سبق الخوض فيها بالتفصيل في موقعنا ، في الفتوى رقم : (111867) ، (115534) .

ولسنا في صدد متابعة مقاطع الفيديو ، وإعداد الردود على ما ورد في كل كلمة منها ، وإنما مقصدنا الحديث عن المسألة العلمية بتجرد وموضوعية .
والله أعلم .

Icon