الإجابة
الحمد لله
قال الله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) آل عمران/ 92
" هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات ، فقال (لن تنالوا) أي: تدركوا
وتبلغوا البر الذي هو كل خير ، من أنواع الطاعات ، وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه
إلى الجنة، (حتى تنفقوا مما تحبون) أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم،
فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال ، فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على
إيمانكم الصادق ، وبر قلوبكم ، ويقين تقواكم ، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال ،
والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه ، والإنفاق في حال الصحة .
ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره ، وأنه ينقص من بره بحسب ما
نقص من ذلك ، ولما كان الإنفاق ، على أي وجه كان ، مثابا عليه العبد، سواء كان
قليلا أو كثيرا، محبوبا للنفس أم لا ، وكان قوله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما
تحبون) ، مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيَّد [ يعني : غير المحبوب للنفس ] غير
نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله ( وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) فلا
يضيق عليكم ، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه " انتهى من " تفسير السعدي " (ص
138) .
وهذه هي النفقة في سبيل الله ، فلا ينال العبد البر في الدنيا والآخرة حتى ينفق مما
يحب في سبيل الله .
وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال لأهل العلم :
أحدها: أنها الصدقة المفروضة ، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك.
والثاني: أنها جميع الصدقات ، قاله ابن عمر.
والثالث: أنها جميع النفقات التي يُبتغى بها وجه الله تعالى ، سواء كانت صدقة، أو
لم تكن، نُقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى .
انظر : "زاد المسير" (1/ 303) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" قِيلَ: الْمَعْنَى حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ ،
مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا جَامِعٌ " انتهى من "تفسير
القرطبي" (4/ 133) .
وعلى ذلك ؛ فمن أهدى إلى مسلم هدية ، يبتغي بها وجها من وجوه الخير ، كالتقرب إليه
لمحبته في الله ، أو لكونه من ذوي رحمه ، فهو يحب أن يصله ، أو لكونه فقيرا ، فهو
يحب أن يعينه ، أو غير ذلك من وجوه البر المشروعة : فهي نفقة في سبيل الله ، وتدخل
في معنى البر المذكور في قوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ ) .
وقد روى البخاري في "الأدب المفرد" (594) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تَهَادوا تَحَابُّوا)، وحسنه الألباني
في "الإرواء" (6/44) .
وروى أحمد (23252) عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ صَدَقَةٌ ) وصححه محققو المسند .
وقال ابن عبد البر رحمه الله :
" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ
وَنَدَبَ أُمَّتَهُ إِلَيْهَا، وَفِيهِ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ بِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْ فَضْلِ الْهَدِيَّةِ ، مَعَ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ : أَنَّهَا تُورِثُ
الْمَوَدَّةِ ، وَتُذْهِبُ الْعَدَاوَةَ " .
انتهى من "التمهيد" (21/ 18) .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" مَنْ أَعْطَى شَيْئًا ـ يَنْوِي بِهِ التقرب إلَى اللَّهِ تَعَالَى ـ
لِلْمُحْتَاجِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ.
وَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لِلتَّقَرُّبِ إلَيْهِ، وَالْمَحَبَّةِ لَهُ،
فَهُوَ هَدِيَّةٌ.
وَجَمِيعُ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمَحْثُوثٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (تَهَادَوْا تَحَابُّوا) " انتهى من
"المغني" (6/ 41) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" يثاب الإنسان على الهدية ؛ لأنها إحسان، والله تعالى يحب المحسنين ، ولأنها سبب
للألفة والمودة ، وكل ما كان سبباً للألفة والمودة بين المسلمين ، فإنه مطلوب ، وقد
تكون أحياناً أفضل من الصدقة ، وقد تكون الصدقة أفضل منها " .
انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (16/ 2) بترقيم الشاملة .