الوقفات التدبرية

آية (٢٣) : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى...

آية (٢٣) : ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ * التحدي كان بأكثر من صورة، السور المكية جميعاً جاءت من غير ﴿من﴾ فكان أحياناً يطالبهم بحديث، يقول لهم: فأتوا بقرآن مثله، أحياناً عشر سور، أحياناً سورة مثل الكوثر أو الإخلاص، هذا كان في مكة. في المدينة (في سورة البقرة) هنا القرآن إنتشر وصار أسلوبه معروفاً، الآن يقول لهم ﴿بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ ﴿من﴾ للتبعيض، هو لم يقل : فأتوا بمثله وإنما ببعض ما يماثله أو بعض ما تتخيلونه مماثلاً ولا يوجد ما يماثله فما معناه؟ هذا معناه زيادة التوكيد أنه لو تخيلتم أن لهذا القرآن مثال فحاولوا أن تأتوا بجزء من ذلك المثال الذي تخيلتموه فهذا أبعد في التيئيس من قوله ﴿مثله﴾ مباشرة. هذا إمعان في التحدي. * الفرق البياني بين قوله تعالى ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ فى سورة البقرة و﴿مِثْلِهِ﴾ فى سورة هود؟ أولًا: إذا افترضنا أن لهذا الشيء أمثالاً فيقول: ائتني بشيء ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾، أما عندما نقول : ائتني بشيء ﴿مثله﴾ فهذا لا يفترض وجود أمثال لكنه محتمل أن يكون له مثيل فإن كان موجودًا ائتني به وإن لم يكن موجوداً فافعل مثله. ثانيًا: قال تعالى في سورة البقرة ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ وهي بلا شك أعم مما جاء في سورة هود ﴿افْتَرَاهُ﴾ لأن مظنة الإفتراء أحد أمور الريب. ثالثًا: المفسرون وضعوا احتمالين لقوله تعالى ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ أي من مثل القرآن أومن مثل هذا الرسول الأمي الذي ينطق بالحكمة أي فاتوا بسورة من القرآن من مثل رجل أمي كالرسول صلى الله عليه وسلم، وعليه فإن ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ أعمّ لأنه تحتمل المعنيين أم ﴿مِثْلِهِ﴾ فهي لا تحتمل إلا معنى واحداً وهو مثل القرآن ولا تحتمل المعنى الثاني. رابعًا: أنه حذف مفعولي الفعلين المتعديين في قوله ﴿فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا﴾ والحذف قد يعني الإطلاق عموماً في اللغة. * هل يمكن أن نضيف كلمة مفتراة في سورة البقرة فيقول مثلاً فاتوا بسورة من مثله مفتراة كما قال ﴿مفتريات﴾ في هود؟ هذا التعبير لا يصح من عدة جهات: أولًا: هم لم يقولوا افتراه كما قالوا في سورة هود. ثانيًا: وهو المهم أنه لا يُحسن أن يأتي بعد ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ بكلمة مفتراة لأنه عندما قال من مثله افترض وجود مثيل له فإذن هو ليس مفترى ولا يكون مفترى إذا كان له مثيل إذن تنتفي صفة الافتراء مع افتراض وجود مثل له. ثالثًا: لا يصح أن يقول في سورة هود أن يأتي بـ ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ لأن استخدام ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ تفترض أن له مثل إذن هو ليس بمفترى ولا يصح بعد قوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ أن يقول ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ لنفس السبب الذي ذكرناه سابقاً. إذن لا يمكن استبدال إحداهما بالأخرى. رابعًا: قال تعالى في آية سورة البقرة ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ولم يقل ادعوا من استطعتم كما قال في هود ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ لأنه في آية سورة البقرة عندما قال ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ افترض أن له مثل إذن هناك من استطاع أن يأتي بهذا المثل وليس المهم أن تأتي بمستطيع لكن المهم أن تأتي بما جاء به فلماذا تدعو المستطيع إلا ليأتي بالنصّ؟ فقال ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ ليشهدوا إن كان هذا القول مثل هذا القول فالموقف إذن يحتاج إلى شاهد محكّم ليشهد بما جاءوا به وليحكم بين القولين. أما في آية سورة هود فالآية تقتضي أن يقول ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ ليفتري مثله، هم قالوا افتراه فيقول تعالى ادعوا من يستطيع أن يفتري مثله كما يقولون، إذن في سورة البقرة أعمّ وأوسع لأنه تعالى طلب أمرين: دعوة الشهداء ودعوة المستطيع ضمناً أما في آية سورة هود فالدعوة للمستطيع فقط. ومما سبق نلاحظ أن الآية في سورة البقرة بُنيت على العموم أصلاً (لا ريب، من مثله، الحذف قد يكون للعموم، ادعوا شهداءكم). ثم إنه بعد هذه الآية في سورة البقرة هدّد تعالى بقوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)) والذي لا يؤمن قامت عليه الحجة ولم يستعمل عقله فيكون بمنزلة الحجارة.

ﵟ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﵞ سورة البقرة - 23


Icon