الوقفات التدبرية

آية (٤٨) : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ...

آية (٤٨) : ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ * هذه الآية وردت مرتين وصدر الآيتين متفق ولكن الآية الأولى تختم ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ والثانية ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ والمسألة تحتاج إلى فهم ، ففي الآية الأولى الشفاعة مقدمة وقال: لا يقبل. والعدل متأخر ، وفي الآية الثانية العدل مقدم والشفاعة مؤخرة وقال لا تنفع . قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ كم نفساً هنا؟ إنهما اثنتان ، النفس الأولى هي الجازية ، والنفس الثانية هي المجزي عنها ، وقوله تعالى (لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) هنا الضمير يعود إلى النفس الأولى الجازية التي تتقدم للشفاعة عند الله وتحاول أن تتحمل عن النفس المجزي عنها ، فالمعنى أنه سيأتي إنسان صالح يوم القيامة ليشفع عند الله تعالى لإنسان أسرف على نفسه ، فلا تقبل شفاعته ، فإذا فشلت الشفاعة ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ ولا يسمح له بأي مساومة أخرى ، وهذا ترتيب طبيعي للأحداث فقد طلب هؤلاء الشفاعة أولا ولم تقبل ، فدخلوا في حد آخر وهو العدل فلم يؤخذ . في الآية الثانية يتحدث الله تبارك وتعالى عن النفس المجزي عنها قبل أن تستشفع بغيرها وتطلب منه أن يشفع لها ، لابد أن تكون قد ضاقت حيلها وعزت عليها الأسباب فيضطر أن يذهب لغيره وفي هذا اعتراف بعجزه ، فيقول يا رب ماذا أفعل حتى أكفر عن ذنوبي فلا يقبل منه ، فيذهب إلى من تقبل منهم الشفاعة فلا تقبل شفاعتهم (لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ) أي أن الضمير هنا عائد على النفس المجزي عنها. فهي تقدم العدل أولاً والعدل هو المقابل كأن يقول المسرف على نفسه يا رب فعلت كذا وأسرفت على نفسي فأعدني إلى الدنيا أعمل صالحاً فلا يقبل منها ، فتبحث عن شفعاء فلا تجد ولا تنفعها شفاعة. فعندما تقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ( اتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ) مكررة في الآيتين لا تظن أن هذا تكرار. لأن إحداهما ختامها: ( لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ). والثانية: ( لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ). فالضمير مختلف في الحالتين. مرة يرجع إلى النفس الجازية فقدم الشفاعة وأخر العدل ، ولكن في النفس المجزي عنها يتقدم العدل وبعد ذلك الشفاعة. * في الأولى قدّم الشفاعة وأخّر العدل لأن قبل هذه الآية قال ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ هم يأمرون الناس بالبر فظن هؤلاء أن هؤلاء يشفعون لهم ، لما يأمر بالبر وينسى نفسه فهؤلاء لا يقبل منهم شفاعة ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ لأنه قال ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ باعوا الدين ، لما قبضوا الثمن ربنا لا يأخذ منها عدل، هم أخذوا لكن ربنا لا يأخذ منهم ، هذه نظير تلك. * العدل معناه ما يعادل الجُرم الذي هو الفدية وإيصال هذا المال لمستحقه في حال قيام الإنسان بجريمة أو ما شابه له أسلوبان: الأول أن يرسل وفد صالح وشفاعة حتى يقبلوا ما يقدمه لهم أولاً ثم يذهب بالفدية أو المقابل . والثاني أن يذهب إبتداء فيقدم ما عنده فإذا رفضوا يأتي بوسطاء يشفعون له . الآيتان كل واحدة منهما نظرت إلى صورة فنُفي الصورتان عن القبول فيما يتعلق بالأمم التي آمنت قبل اليهود بشكل خاص حتى يؤمنوا بالله تعالى ورسوله محمد وبكتابه ، نجمع بين الآيتين على بعد ما بينهما هذه نظرت في صورة وهذه نظرت في صورة فانتفت كلتا الصورتين فالقرآن الكريم يأّس بني إسرائيل من الحالتين لا يقبل منكم عدل إبتداء وبعده شفاعة ولا شفاعة ابتداء ثم يأتي العدل بعد ذلك لا ينفعكم إلا أن تتبعوا محمداً . * إن أحوال الأقوام في طلب الفِكاك عن الجُناة تختلف فمرة تراهم يٌقدّمون الفِداء فإذا لم يُقبل منهم يُقدِّمون الشفعاء وتارة يُقدِّمون أولاً الشفعاء فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء فعرضت الآيتان أحوال نفوس الناس في فِكاك الجُناة. * استعمل المذكر ﴿يقبل﴾ مع الشفاعة بينما جاء الفعل ﴿تنفعها﴾ مؤنثاً مع كلمة الشفاعة نفسها: الفعل ﴿يقبل﴾ لم يُذكّر مع الشفاعة إلا في الآية ١٢٣ من سورة البقرة وهنا المقصود أنها جاءت لمن سيشفع بمعنى أنه لن يُقبل ممن سيشفع أو من ذي الشفاعة ، أما في الآية الثانية فالمقصود الشفاعة نفسها لن تنفع وليس الكلام عن الشفيع. وقد وردت كلمة الشفاعة مع الفعل المؤنث في القرآن الكريم في آيات أخرى منها (لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً (٢٣)يس) . وفي لغة العرب يجوز تذكير وتأنيث الفعل فإذا كان المعنى مؤنّث يستعمل الفعل مؤنثاً وإذا كان المعنى مذكّراً يُستعمل الفعل مذكّراً.

ﵟ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﵞ سورة البقرة - 48


Icon