الوقفات التدبرية

آية (٥٨) : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ...

آية (٥٨) : ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ * بين الآية هنا في سورة البقرة والآية في الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)) ما دلالة الاختلاف بينهما؟ الخطاب في الآيتين من الله تعالى إلى بني إسرائيل والأمر بالدخول للقرية والأكل واحد لكن التكريم والتقريع مختلف والسياق مختلف ، يجب أن توضع الآية في سياقها لتتضح الأمور والمعنى والمقصود : سورة البقرة سورة الأعراف ١- آية البقرة في مقام تكريم بني إسرائيل ليذكرهم بالنعم ، بدأ الكلام معهم بقوله سبحانه (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧)) العالمين هنا أي قومهم في زمانهم وليس كل العالمين في الأعراف في مقام التقريع والتأنيب فالسياق اختلف هم خرجوا من البحر ورأوا أصناماً فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً وعبدوا العجل وانتهكوا حرمة السبت فذكر جملة من معاصيهم وهذا لم يذكره في البقرة ٢- ﴿وإذ قلنا﴾ بإسناد القول إلى نفسه سبحانه وهذا يكون في مقام التكريم ﴿قُلْنَا﴾ هذا في زمن سيدنا موسى عندما قال الله ذلك ﴿وإذ قيل لهم﴾ بالبناء للمجهول للتقريع ﴿وإذ قيل لهم﴾ مثل آتيناهم الكتاب وأوتوا الكتاب في مقام الذم ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ عن طريق أنبيائهم بعد سيدنا موسى يقولون ألم يقل لكم ربكم ادخلوا ؟ ٣- ﴿ادخلوا هذه القرية﴾ في البداية أمركم أن تدخلوا هذه القرية ﴿اسكنوا هذه القرية﴾ يعني بعد أن تدخلوا لا تفكروا بالخروج منها وإنما اسكنوا بها بشكل نهائي ٤- ﴿فكلوا﴾ بالفاء ، لما تاهوا وشكوا من الجوع وقالوا (يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴿٦١﴾) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب يعني الأكل موجود مهيأ بمجرد الدخول ادخلوا فكلوا لأنهم جائعون في البقرة الأكل مهيأ بعد الدخول والأكرم أن يقول ادخلوا فكلوا ﴿وكلوا﴾ بالواو الواو تفيد مطلق الجمع ، الأكل ليس بعد الدخول وإنما بعد السكن، ولم يأت بالفاء بعد السكن ﴿وكلوا﴾ في الأعراف الأكل بعد السكن ولا يدرى متى يكون كلما جاعوا يأكلون ٥- ﴿رغداً﴾ تتناسب مع التكريم ، رغداً تستعمل للعيش يعني لين العيش ورخاؤه لم يذكر رغداً لأنها في مقام تقريع لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم. ٦- ﴿وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطة﴾ أي حُطّ عنا ذنوبنا قدّم السجود على القول ، أولاً السجود أفضل الحالات، فالسجود أفضل من القول لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فقدّم ما هو أفضل . إضافة إلى أن السياق في الصلاة والسجود قال قبلها (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)) والسجود من أركان الصلاة وقال بعدها أيضاً (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)) فتقديم السجود هو المناسب للسياق ﴿وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً﴾ قدم القول على الدخول وجاء بالسجود بعد القول ٧- ﴿نغفر لكم خطاياكم﴾ وهو جمع كثرة ، نغفر لكم خطاياكم وإن كثرت أي يغفر كل الخطايا ﴿نغفر لكم خطيئاتكم﴾ جمع قلة ، خطيئاتكم قليلة وهنا لم تحدد أن خطاياهم قليلة لكن يغفر قسماً منها ، ما غُفر منها قليل إذا ما قورن بآية البقرة ، أيها الأكرم؟ ٨- ﴿وسنزيد المحسنين﴾ جاء بالواو الدالة على الاهتمام والتنويه آية البقرة فيها قوة ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ لما كان المخاطِب رب العالمين يكون عطاؤه أكثر وأعظم ﴿سنزيد المحسنين﴾ بدون الواو بينما عندما يرسل شخص يبلغك ﴿قِيلَ لَهُمُ﴾ يكون العطاء أقل * في الآية ﴿وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم﴾ جمع مكانين القرية وحيث شئتم ثم جاء بـ ﴿رغداً﴾ بعد ذلك ، المعنى هنا ليس فيه إستثناء وإلا كان يقدّم ، وإنما قال ﴿وادخلوا الباب سجداً﴾ إنتقل لموضوع آخر ، هذه القرية مفتوح أمامكم جميع نواحيها للأكل الرغد الهنيء ، ولو قال رغداً حيث شئتم كأنه سيكون فاصل بين المكانين من دون داعي . * اللمسة البيانية التي تضفيها كلمة رغداً بعد ﴿حيث شئتم﴾ : بيان أن هذه القرية كانت مليئة بالثمار والأشجار ترتاحون فيها من غير أن تبذلوا أي جهد إكراماً لهؤلاء من الله سبحانه وتعالى لكن مع ذلك لا هم سجدوا ولا قالوا حطة وإنما دخلوا القرية يزحفون على أعقابهم وبدلوا بقولهم حنطة ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ مع أن ما أمرهم الله به أقل مشقة مما فعلوه ، ولكن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في المخالفة .

ﵟ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﵞ سورة البقرة - 58


Icon