الوقفات التدبرية

آية (٦٢) : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ...

آية (٦٢) : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ * عبّر تعالى هنا بالذين هادوا ولم يقل اليهود إشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود وليسوا اليهود من سبط يهوذا . * وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية ٦٢ في سورة البقرة وآية ٦٩ في المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)) وآية ١٧ في الحج (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)) : من حيث الناحية الإعرابية : النصب في آية البقرة وآية الحج ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ معطوف على منصوب . الرفع في آية المائدة على محل إسم إنّ ، فالأصل إسم إنّ قبل أن تدخل عليه مرفوع فهذا مرفوع على المحل ، أو يجعلوه جملة معترضة (والصابئون كذلك) . لكن لماذا رفع؟ ﴿إنّ﴾ تفيد التوكيد ، (الصابئون) غير مؤكد والباقي مؤكد لماذا؟ لأنهم دونهم في المنزلة ، أبعد المذكورين ضلالاً والباقون أصحاب كتاب ، الذين هادوا عندهم التوراة والنصارى عندهم كتاب الإنجيل والذين آمنوا عندهم القرآن ، الصابئون ما عندهم كتاب خرجوا عن الديانات المشهورة ، صبأ في اللغة أي خرج عن الدين ، ولذلك هم دونهم في الديانة والاعتقاد ولذلك لم يجعلهم بمنزلة واحدة فرفع فكانوا أقل توكيداً ، وجاءت هذه الآية لتلفتنا أن هذه التصفية تشمل الصابئين أيضاً فقدمتها ورفعتها لتلفت إليها الآذان بقوة ، ولتقطع اليأس فالصابئون كذلك كلهم يغفر لهم إذا تابوا . من حيث التقديم والتأخير في الترتيب : آية البقرة ﴿والنصارى والصابئين﴾ لم يذم عقيدة النصارى وحشرهم على الجانب التاريخي فذكر اليهود ومن ورائهم بالترتيب التاريخي ووضع الصابئين في آخر المِلل ، والذين آمنوا ﴿المؤمنون﴾ مقدّمون على الجميع . في المائدة ﴿والصابئون والنصارى﴾ قدّم الصابئين لأنه ذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم ، تكلم على عقيدة التثليث جعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله وكأنهم صنف من المشركين (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (٧٢)) (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ .. (٧٣)) فأخّر النصارى حتى تكون منزلتهم أقل لأنه ذمّ عقيدتهم . في الحج ﴿وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى﴾ الكلام على الفصل يوم القيامة ، تحدث عن مطلق الايمان والكفر والحساب يوم القيامة ، فلا بد أن تكون متلازمة ، فجمعهم وجعل العطف عطفاً طبيعياً . في آية البقرة ﴿فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ أما في المائدة ﴿فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ : المذكورين في الآيتين هم نفسهم (الذين آمنوا، الذين هادوا، النصارى، الصابئين) لكن : - في سورة المائدة السياق في ذمّ عقائد اليهود والنصارى ذمّاً كثيراً مسهب والكلام على اليهود أشدّ وما ذكرهم في المائدة إلا بمعاصيهم ، أما في البقرة فالسياق في الكلام عن اليهود فقط وليس النصارى ، حتى لما يذكر العقوبات يذكرها في المائدة (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (٦٠)) أكثر من البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥)) لذا اقتضى السياق التفضيل بزيادة الخير والرحمة في المكان الذي يكون الغضب فيه أقل (في سورة البقرة) . - جو الرحمة ومفردات الرحمة وتوزيعها في سورة البقرة أكثر من المائدة ، فقد وردت الرحمة ومشتقاتها في سورة البقرة ١٩ مرة بينما وردت في المائدة ٥ مرات ، ولم تُجمع القردة والخنازير إلا في سورة المائدة . - أنواع العمل الصالح في السورتين: في سورة المائدة ورد ذكر ١٠ أنواع من العمل الصالح (الوفاء بالعقود، الوضوء، الزكاة، الأمر بإطاعة الله ورسوله والإحسان والتعاون على البر والتقوى وإقام الصلاة والجهاد في سبيل الله والأمر باستباق الخيرات) ، وفي سورة البقرة ورد ذكر ٣٠ أو ٣٣ نوع من أعمال الخير وتشمل كل ما جاء في سورة المائدة ما عدا الوضوء وفيها بالإضافة إلى ذلك الحج والعمرة والصيام والإنفاق والعكوف في المساجد وبر الوالدين والهجرة في سبيل الله والإيفاء بالدين والقتال في سبيل الله والإصلاح بين الناس وغيرها كثير ، لذا اقتضى كل هذا العمل الصالح في البقرة أن يكون الأجر أكبر ﴿فلهم أجرهم عند ربهم﴾ . - ﴿فلهم أجرهم عند ربهم﴾ تتردد مفرداتها كما يلي : ١. الفاء وردت في البقرة ٢٦٠ مرة ووردت في المائدة ١٨٠ مرة ٢. لهم وردت في البقرة ٢٩ مرة وفي المائدة ١٥ مرة ٣. أجرهم وردت في البقرة ٥ مرات وفي المائدة مرة واحدة فقط ٤. عند وردت في البقرة ١٩ مرة وفي المائدة مرة واحدة ٥. ربهم وردت في البقرة ١٠ مرات ومرتين في المائدة وهذه العبارة ﴿فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ لم ترد إلا في سورة البقرة بهذا الشكل وقد وردت في البقرة ٥ مرات . * الله سبحانه وتعالى يعطف الإيمان على العمل لذلك يقول دائما ﴿آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ لأن الإيمان إن لم يقترن بعمل فلا فائدة منه ، والله يريد الإيمان أن يسيطر على حركة الحياة بالعمل الصالح ، فيأمر كل مؤمن بصالح العمل وهؤلاء لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة . * الفرق بين (عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) و ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أنه في عموم القرآن إذا كان السياق في العمل يقول ﴿عملاً صالحاً﴾ كما في آخر سورة الكهف (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (١١٠)) لأنه تكلم عن الأشخاص الذين يعملون أعمالاً سيئة أما الآية (٦٢) من سورة البقرة ليست في سياق الأعمال فقال ﴿عمل صالحاً﴾ .

ﵟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﵞ سورة البقرة - 62


Icon