الوقفات التدبرية

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى...

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ * الملاحظ أنه ذكر الفريضة أولاً ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ لم يحدد وقتاً ولا مدة ، ثم بعدها ذكر الأيام مبهمة قال ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ لم يُحّددها، ثم بيّن بقوله ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ فيما بعد، الآن تعيّن الوقت للصيام وحدّد إذن أصبح الفريضة هي صيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أي الذي ابتدأ فيه نزول القرآن من اللوح المحفوظ جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل منجماً فيما بعد على مدى ثلاث وعشرون سنة. * ﴿أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ فيها دلالتان إما ابتداء إنزال القرآن فيه أو أنزل في شأنه القرآن أي في تعظيمه. * ﴿أُنزل فيه القرآن﴾ بني الفعل للمجهول ولم يقل أنزلنا فيه القرآن فالفاعل مُضمر محذوف لأن سياق الكلام عن شهر رمضان تعظيماً له ولو قال أنزلنا يعود ضمير المتكلم على مُنزِل القرآن وهو الله سبحانه وتعالى. * جاءت ﴿هُدًى﴾ منصوبة : فيها احتمالان أن تكون حال أي (هادياً للناس) أو مفعول لأجله أي لأجل هداية الناس. الهداية غير موجودة لولا القرآن، فإذن هي ابتغاء علة لم تكن حاصلة إلا بالقرآن ، بهذه الطريقة يجمع معنيين. * في أول السورة قال ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ وهنا قال ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ فإذن القرآن فيه هداية عامة وفيه هداية خاصة ، هداية عامة ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ فيه آيات بينات تستدل منها على أن هذا القرآن قطعاً من فوق سبع سموات ، ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى﴾ فيه دلائل آيات واضحة تحتج بها على أن هذا القرآن هو من عند الله وفيه آيات أحكام هادية للناس في معاملاتهم تفرق بين الحق والباطل ، واستخدم الكلمتين بالمعنيين هنا، ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ هدى عام ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى﴾ هدى خاص . *﴿ فَمَن شَهِدَ﴾ أي من كان حاضراً مقيماً وليس مسافراً ، شهد الشهر ليس بمعنى شاهد الهلال. تقول أشهِدت معنا؟ أي هل كنت حاضراً معنا؟. لأنه ذكر المسافر فيما بعد. * في الآية الأولى قال ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا﴾ بينما هنا لم يذكر ﴿مِنكُم﴾ قال ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا﴾ لأن الآية الأولى تقدمها قوله ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فلو لم يقل منكم كان يُظن أن هذا حكم الأولين وليس للمسلمين فكان لا بد أن يذكر ﴿منكم﴾ لئلا ينصرف المعنى للذين من قبلكم. بينما في الآية الأخرى بدأها بقوله ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ فذكر ﴿مِنْكُمُ﴾ لأن الخطاب للمسلمين فلا داعي لتكرارها. * لم يأت في هذه الآية بقوله ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ : - لأن المسألة قد انتقلت من الاختيار إلى الفرض . - لأنه في الآية نفسها ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ َ﴾ قال يريد بكم اليسر فكيف يقول أن تصوموا خير لكم؟ وهذا من تمام رأفته ورحمته بنا سبحانه وتعالى. * قول الله عز وجل ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ تعقيب على أنه أعفى المريض والمسافر من الصيام ، فكأنك لو خالفت ذلك لأردت الله معسراً لا ميسراً والله لا يمكن أن يكون كذلك ، بل أنت الذي تكون معسراً على نفسك ، فإن كان الصوم له قداسة عندك، ولا تريد أن تكون أسوة سيئة فلا تفطر أمام الناس ، والتزم بقول الله ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ لأنك لو جنحت إلى ذلك لجعلت الحكم في نطاق التعسير ، فهل أنت مع العبادة أم أنت مع المعبود؟ أنت مع المعبود بطبيعة الإيمان. * الفرق بين مشيئة الله وإرادة الله : أكثر المتكلمين يرون أن المشيئة والإرادة سوءا لكن قسم منهم يقول أن المشيئة تقتضي الوجود ولذلك قال (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) الإرادة لا تقتضي الوجود ربنا قد يريد شيئاً من الناس لكن الناس لا يفعلوه، ربنا يريد الناس أن يعبدوه ، ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ لكن الإنسان قد يريد لنفسه العسر. * ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ﴾ هذه اللام فيها احتمالان: - احتمال أن تكون اللام زائدة في مفعول فعل الإرادة يعني يريد لتكملوا العدة والقصد منها التوكيد . - والآخر يحتمل أن يكون للتعليل والعطف على علّة مقدرة وهذا كثير في القرآن الكريم وفي لغة العرب. * ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ ﴿ما﴾ تحتمل معنيين بمعنى الذي أي على الذي هداكم ، والمصدرية بمعنى الهداية أي على هدايته لكم ونرجح المعنيين فهما مرادان. * قال ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ولم يقل تفلحون : ذلك أن الصيام قد يُظن لأول وهلة أنها عبادة شاقة علينا فإذا ما انتهينا منها أدركنا لطف الله سبحانه وتعالى ونشعر بفضل الله تعالى وكيف أعاننا على القيام بهذه الفريضة فندرك عظمتها ونستشعر آثارها في أرواحنا فنتوجه إلى الله تعالى بالشكر على هذه العبادة العظيمة وعلى عونه لنا على أدائها.

ﵟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﵞ سورة البقرة - 185


Icon