الوقفات التدبرية

آية (٢٨) : (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ...

آية (٢٨) : ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ * ﴿يَا قَوْمِ﴾ نداء متلطِّف حتى يتألفهم لا يريد أن يثيرهم يريد أن يتودد لهم ويتألف لهم حتى يسمعون. * ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ معناها أخبروني فيها معنى التعجيب من موقفهم. إذن أرأيتم أخبروني. * رد عليهم رداً منطقياً وكأن هذا سؤال، أخبروني إذا كنت مرسلاً بالفعل إفترضوا أني على بينة وعلى صحة، كيف نلزمكم هذه الحجة وعندكم مانعان الآن أنها مبهمة عليكم ما فهمتموها ثم أنتم لها كارهون تكرهون النظر فيها، لا تريدون أن تسمعوها كيف أوصلها لكم؟! * قال ﴿إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ﴾ ولم يقل بينة من ربكم: لأن البينة بمعنى الرسالة أو الحجة أو المعجزة جاءته هو، لو كانت البينة جاءتهم لكان يقول ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾، ولذلك في القرآن حيث يتكلم النبي على نفسه هو يعني البينة له يقول ﴿مِّن رَّبِّيَ﴾ وحيث يقول جاءتكم يقول ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ في جميع القرآن، لكن هنالك ملاحظة في هذا التعبير جميع الأمم السالفة التي ذكرها ربنا بالقرآن التي خوطبت بنحو هذا يقول ﴿قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ قالها قوم صالح ومدين وموسى إلا الذين أرسل لهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قال ﴿فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ زاد الهدى والرحمة، لماذا؟ لأن الأقوام الماضية كذبوا وعذبوا وهلكوا إلا سيدنا محمد رُحِموا وهُدوا وهذا إلماح إلى أنهم يهتدون ويُرحمون. * ﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ قدّم الرحمة على الجار والمجرور وفي موطن آخر قال (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً (٦٣)) : التقديم قائم على الأمور الأهم هنا قدم الرحمة لأن الكلام على الرحمة ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ فقدمها، أما في الآية الثانية الكلام عن الله تعالى ﴿فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ﴾ (الله، منه، الضمير في عصيته) كلها تعود على الله تعالى لذا اقتضى السياق تقديم ﴿مِنْهُ﴾ على الرحمة. * الفرق بين ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ و ﴿رَحْمَةً مِنَّا﴾ : الرحمة قطعاً من عند الله. لكن خصوصيات التعبير القرآني أنه لا يستعمل ﴿من عنده﴾ إلا مع المؤمنين فقط فيها خصوصية ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ ﴿نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ﴾ ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾، أما رحمة منا عامة للمؤمن والكافر، للبشر﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ . * ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ لم يقل أُبهمت وأخفيت: لو نظرنا ماذا قالوا له قبل قليل ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ هم ذكروا الرؤية ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا﴾ ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ﴾ ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ نقيض الرؤية العمى، فقال ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أنتم لا ترون، والغريب هو قال ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ بالتضعيف وفيها قراءتان عُمّيت وعَميت، عمّيت عليكم، عَميت أيضاً معناها التبست عليهم البينات، والإثنان مرادان ليؤدي أكثر من معنى، لكن عُمّيت فيها تشديد، لأنهم قالوا ﴿ما نراك﴾ ثلاث مرات فشدد، كما ضعّفوا ضعّف. * ﴿وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ قدّم الجار والمجرور لأنهم يخصونها بالكراهة لا يطيقون سماعها، لا يكرهون شيئاً ككراهتهم لها. لو قال كارهون لها لاحتمل أن يكونوا كارهون لها ولغيرها. * قال ﴿كَارِهُونَ﴾ بالإسم ولم يعبر بالفعل (تكرهون) لأن الاسم يدل على الثبوت وهذه صفتهم الثابتة لا تتحول، ولو عبّر بالفعل قد تتغير، فالفعل يدل على الحدوث والتجدد.

ﵟ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﵞ سورة هود - 28


Icon