الوقفات التدبرية

آية (٢٩) : (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ...

آية (٢٩) : ﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ * ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا﴾ وفي موضع آخر قال ﴿لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ : - في قصة نوح ﴿مَالًا﴾ وفي قصة هود مع قومه (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١)) لو لاحظنا سياق القصتين لوجدنا أنه في قصة نوح عليه السلام قال تعالى ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ جاء ذكر خزائن الله والمال يُوضع في الخزائن أما في قصة هود عليه السلام فلم ترد ذكر الخزائن وإنما قال ﴿أجراً﴾ لأن الأجر عام. - في الأولى ذكر ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ بذكر لفظ الجلالة بينما جاء في الثانية ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي﴾ ولو نظرنا من ناحية السمة التعبيرية في القصتين لوجدنا أن كلمة ﴿الله﴾ وردت في قصة نوح عليه السلام عشر مرات بينما وردت ثلاث مرات في قصة هود عليه السلام. - ذكر تعالى في قصة نوح عليه السلام كلمة ﴿الله﴾ إسم علم وفي هود ذكر ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ أي عدّى الفعل إلى ذاته بضمير المتكلم ونلاحظ في قصة هود ارتباط الأمور بشخص هود عليه السلام (إن نقول إلا اعتراك، كيدوني، إن توكلت، ربي) فمن الذي سينجيه من الكيد؟ الذي فطره فهو الذي خلقه ويحفظه من كل سوء فالأمر إذن شخصي وليس عامّاً فاقتضى ذكر ﴿الذي فطرني﴾ . * ﴿بِطَارِدِ﴾ نفى بالإسم ولم يقل لا أطرد أو لن أطرد لأن الاسم آكد وأثبت، وجاء بالباء الزائدة المؤكدة في خبر المنفي. * ﴿بِطَارِدِ﴾ لم يقل بطاردٍ بالتنوين كما قال ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ : بالإضافة ﴿بِطَارِدِ﴾ تعني أنها مطلقة قد تشمل الماضي والمستقبل، فهو لم يفعلها لا في الماضي ولا في المستقبل، ولو قال وما أنا بطاردٍ فقد خصها بالمستقبل واحتمال أنه فعلها، فالتنوين لا يشمل الماضي، أما ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هذا مستقبل لم يجعل خليفة بعد فلم يضفه. * هنا ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وفي الشعراء في قصة نوح قال (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)) : الكلام في سورة هود كان أسبق في الزمن لما هو في الشعراء ففي هود كانت كلاماً (قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)) لم يهددوه برجم أما في الشعراء هددوه بالرجم (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦)) هذه مرحلة متأخرة، إذن هؤلاء مؤمنين صبروا وثبتوا وصدقوا كل هذه المدة الطويلة (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) الشعراء) وثباتهم هذا دلالة على أنهم صادقين في إيمانهم فاستحقوا الوصف بالإسم، تلك في مرحلة وهذه في مرحلة. هم آمنوا ثم استمروا محافظين على إيمانهم. * ﴿وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ لما قالوا ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ فقال ﴿وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ﴾ . * هنا ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ وفي الأعراف ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ وفي النمل ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ : في سورة هود في قصة نوح عليه السلام دعاهم إلى ما يرى ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ وذكر ما يراه كل واحد في الآخر في المعتقدات. في سورة الأعراف في قصة موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ بعدما أنجاهم وجاوزهم من البحر وأغرق آل فرعون (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)) هذه ليست مسالة رؤية، هذه فيها أمر فيه تحقيق، لأن هذا ارتداد وشرك، كما أنه أكدها ﴿إِنَّكُمْ﴾ لأنه أمر عظيم وفظيع أكثر من فعل الفاحشة في سورة النمل . في سورة النمل هؤلاء قوم لوط (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)) ليس نقاشاً في فكرة وأخذ ورد وإنما فاحشة، ليست كتلك أنه جاءهم بعقيدة هم يرون هذا وهو يرى هذا، هذا في أمر ظاهر فاحش تقرير أمر واقع، ما قال ﴿إنكم﴾ لكن قال ﴿بَلْ أَنتُمْ﴾ ما قال ﴿إنكم﴾ ليس فيها تأكيد لأن الفاحشة ليست بمنزلة الشرك وعبادة أصنام.

ﵟ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۚ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﵞ سورة هود - 29


Icon