الوقفات التدبرية

آية (٣١) : (وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ...

آية (٣١) : ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ * قال ﴿وَلاَ أَقُولُ﴾ ولم يقل ما قلت أو ما أقول، ﴿وَلاَ أَقُولُ﴾ نفى بـ ﴿لا﴾ يعني على وجه الاستمرار في الماضي والآن وفي المستقبل، عامة، ﴿لا﴾ أوسع حرف نفي، وما أقول حال يعني الآن لكن يمكن أن أقول غداً. * قال ﴿خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ ولم يقل خزائن لله لأن ﴿خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ يعني كلها، أما خزائن لله ليست كل الخزائن ولو كانت ثلاثة أربعة صارت لله، إذن الذي عنده خزائن لله يخشى النفاذ لكن الذي عنده خزائن الله كيف تنفذ؟! والناس يستهويهم المال الكثير أيضاً مال كثير ولا تنفذ، إذن خزائن الله أولى. * هنا قال ﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام قال (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ (٥٠)) : السياق في سورة هود في مقام التلطف والدعوة بهدوء من سيدنا نوح لقومه، بينما السياق في الأنعام في مقام التبكيت والتعنيف (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)) . * دلالة اللام في ﴿لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا﴾ : النحاة يخرجونها تخريجين من حيث النحو ولكل منهما معنى خاصاً به: - الأول أن تأتي بمعنى ﴿عن﴾ بمعنى لا أقول عن الذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا، وفي الآية نوح يخاطب الفئة الكافرة يحدّثهم عن المؤمنين، فاستعمال يؤتيهم صحيح لأنه يخاطب فئة عن الفئة الأخرى. - الثاني أن اللام تفيد التعليل بمعنى لأجل هؤلاء فالأصح هنا أن يقول لن يؤتيهم الله خيرًا، وفي الحالتين استعمال يؤتيهم هو المناسب للآية. * ﴿تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ وليست ازدرت لأنهم لا يزالون، لو قال ازدرت قد تتغير أو تنتهي. * ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ حذف العائد ولم يقل تزدريهم أعينكم: حذف الضمير إكراماً لهم فأحياناً نحذف من باب الإكرام لا نريد أن ينال الفعل شخصاً نكرمه ونجله إذا كان فيه شدة مثل ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ ولم يقل ما قلاك إكرامًا له. * أسند الازدراء إلى الأعين ﴿تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ ولم يقل تزدرونهم: أراد إكرامهم، كأنه قال أنتم ترون مظاهرهم بأعينكم لا ترون الحقيقة، هذا منتهى الإكرام لهم، ثم هم قالوا ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ فقال لهم هذه الرؤية لا تدل على الصواب ولا الحقيقة، فالرؤية لا تدل دائماً على الحقيقة. * ﴿لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا﴾ ﴿لن﴾ تفيد الاستقبال. الاستقبال قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة وقد يكون فيهما، جاء بـ﴿لا﴾ للمستقبل في ﴿وَلاَ أَقُولُ﴾ ما أدراكم ماذا سيحصل في المستقبل، في الدنيا والآخرة. * لم يقل (لن يؤتيكم) أحياناً يُتكلم في الشخص في غيبته ما لا يواجَه به حياء أو خوف، لا نواجه الشخص بكل ما نريد أن نقول. هو أراد أن يكرمهم قال أنا في غيبتهم لا أقول ذلك لعلهم يسمعون فيتأذون، (لن يؤتيكم) فيها مواجهة بينما ﴿لَن يُؤْتِيَهُمُ﴾ ليست فيها مواجهة حتى في غيبتهم لا أقول ذلك فما بالك في مواجهتهم، فيها إكرام. * لاحظ التعبير العجيب في إكرام نوح عليه السلام لهؤلاء: - حذف مفعول ﴿تَزْدَرِي﴾ ما قال تزدريهم، حذف العائد. - قال ﴿لَن يُؤْتِيَهُمُ﴾ بضمير الغيبة حتى لا يقول فيهم ما يسيء إليهم. - أسند الازدراء إلى الأعين، فرؤيتكم لا تعبر عن الحقيقة. * هنا ﴿اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ وفي الإسراء ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ : القرآن أحياناً يستعمل القلة النسبية، الأنفس جمع قلة ونفوس جمع كثرة، هنا قال ﴿اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ أنفس جمع قلة لأنهم قليل ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾، بينما في آية الإسراء (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ (٢٥)) هذه لعموم الخلق المكلفين ففيها كثرة قاستعمل نفوس. * قال في هود ﴿اللّهُ أَعْلَمُ﴾ وفي الإسراء قال ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ﴾ : المقام في هود مقام العبادة ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ﴾ كثيراً ما يأتي لفظ الله مع العبادة، أما في الإسراء ففي مقام الإحسان للمربي (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (٢٣)) هذا في مقام التربية، الوالدان يربيان أولادهما والرب هو المربي فناسب ذكر الرب مع التربية. * ملاحظات في الآية الكريمة: - يتفق ما قاله أول رسول في القرآن وهو سيدنا نوح ما أُمر به أن يقوله خاتم الرسل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام مما يدل على وحدة الرسالة ووحدة المجتمع البشري، نوح قال ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ لكن الله تعالى أمر محمد عليه الصلاة والسلام (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ (٥٠) الأنعام) نفس العبارات كأن المجتمع واحد لأن موقف المجتمع البشري من فجر التاريخ ما تغير. - قال نوح ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ وربنا قال لسيدنا محمد (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) الأنعام). ولا تطرد الذين يدعون ربهم - وما أنا بطارد. - حتى نفس الوصف (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) الأنعام) تحذير أو تنبيه، نوح قال ﴿إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ .

ﵟ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﵞ سورة هود - 31


Icon