الوقفات التدبرية

آية (٤٠) : (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا...

آية (٤٠) : ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ * قال ﴿جَاء﴾ وليس أتى فالقرآن الكريم يستعمل ﴿جاء﴾ لما هو أشق وأصعب، وهو الآن في العقوبة ﴿جَاء أَمْرُنَا﴾ . * ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ فيها احتمالان في المعنى: - فوران الماء من تنور الخبز ينزل على الأرض هذه إشارة لسيدنا نوح أن يركب السفينة. - قسم يقول هذا مجاز عن شدة الأمر كما يقال الآن حمي الوطيس هذا مجاز لشدة المعركة، الوطيس هو الفرن، فار التنور مثل حمي الوطيس، حتى في العاميّة العراقية نقول قامت القيامة وفار التنور كناية عن الشدة وعن حصول شيء. * ضمير التعظيم في ﴿قُلْنَا﴾ إذا كان في مقام التعظيم، وإذا كان في مقام التوحيد يأتي بالإفراد، وقسم يقول أنه إذا كان أمر الله بواسطة المَلَك يلقيه يأتي بضمير الجمع ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ وإذا لم يكن كذلك يُفرِد ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ . * قال الله سبحانه وتعالى ﴿قُلْنَا﴾ ثم بعدها (وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)) : في نجاة المؤمنين أسند القول إلى نفسه سبحانه كأنما هو رعاية لهم ورحمة ولطف، بينما ﴿وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فيها إهانة لهم، وقد يكون القائل ليس الله سبحانه وتعالى بالضرورة وإنما قد يقول الملائكة والمؤمنون ﴿بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ . * بدأ بالحيوان ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ لأنه قوام حياة الإنسان الطعام الذي يعيشون منه، ثم أهله ﴿وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ لأن الأقربين أولى بالمعروف ذلك هو نادى ابنه ولم ينادِ أحدا غيره ثم المؤمنين ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ . * كلمة ﴿وَأَهْلَكَ﴾ الحكم القاطع هو أنها إسم بمعنى الأهل وهناك مرجحات: - الآية تشير أن الهلاك لم يحصل بعد لأنهم لم يركبوا، فلا يصح أن تعتبر كلمة ﴿وَأَهْلَكَ﴾ بمعنى الإهلاك. - لو كان ﴿وَأَهْلَكَ﴾ فعل بمعنى الهلاك عادة يكون الاستثناء مفرّقًا والاستثناء المفرّق لا يكون إلا مسبوقًا بنفي أو ما يشبه النفي وهنا مفرّق لكن ليس مسبوقاً بنفي وهذا ما يُضعّف أن يكون أهلك بمعنى فعل الإهلاك. - في آية سورة المؤمنون (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (٢٧)) فالضمير يعود على الأهل ونستدلّ من هذه الآية أن المقصود هو الأهل وليس فعل الإهلاك. - أما ما يقطع بأن المقصود هم الأهل فهو أنه لو كان أهلك فعل ماضي سيكون الناجون ما ذكر بعد الاستثناء قسمين الأول ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ والثاني ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ ومن سبق عليه القول ليسوا مؤمنين لكن في الواقع أن الناجين هم المؤمنون فقط لذا فلا يمكن ولا يصح أن تكون النجاة لغيرهم. * ﴿سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ وليس (سبق له) ﴿عليه﴾ للإستعلاء مثل حق عليه القول تستعمل في العقوبة والعذاب لكن (سبق له) يستعملها في الخير (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (١٧٢) الصافات) . * الفرق بين احمل ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ واسلك (فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (٢٧) المؤمنون) : الدلالة مختلفة، سلك هو النفاذ في الطريق، اسلك معناها أدخِل ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء﴾ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ أما احمل فمن الحِمل معروف ويكون بعد السلوك أولاً يدخل السفينة ثم يحمل، في قصة نوح نفسها متى قال أُسلك؟ ومتى قال احمل؟. آية هود جاء الأمر وصنع الفلك فقال فيها احمل (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ... قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا ...) وفي سورة هود ذكر ما دلّ على الحمل لأن الحمل جاري في السفينة (حمل السفينة للأشخاص) ﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ بمعنى تحملهم ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ﴾ بينما في آية المؤمنون قالها قبل الفعل ولم يذكر الحمل أو صورة الحمل ﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ . * في سورة المؤمنون ﴿إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾ وفي آية سورة هود لم ترد )منهم( : سورة هود مبنية على العموم ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ أعمّ من ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾، وكذلك الآيات ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ ﴿بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ ذكر تعالى السلام والبركات وهذا دليل العموم، أما في سورة المؤمنون فالسياق في التخصيص فلم يذكر السلام والبركات وإنما خصص كما في الآية ﴿أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُبَارَكًا﴾، ولهذا ذكر ﴿مِنْهُمْ﴾ و﴿فَاسْلُكْ﴾ . * كلمة اثنين ترد أحياناً مع زوجين ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ وأحياناً لا ترد (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) الذاريات) : اثنين معناه ذكر وأنثى، في آية الذاريات قال ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ وهذا ليس مقصوداً فيه الذكر والأنثى وإنما عموم المتضادات والمتقابلات مثل البروتون والإلكترون، هذان زوجان. الزوج هو الواحد في الأصل ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ الزوج هو واحد وتطلق على الذكر والأنثى، الرجل زوج والمرأة زوج والاثنان زوجان وهذه أفصح اللغات.

ﵟ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﵞ سورة هود - 40


Icon