الوقفات التدبرية

آية (٤٤) : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء...

آية (٤٤) : ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية لما فيها من أمور بيانية وحشد عظيم من التعبير والبيان ولذلك أُلِّفت فيها رسائل تحديدًا وكتبت فيها كتيبات في السابق وكلام كثير ويقولون فيها أمر ونداء وإخبار وإبقاء وإسعاد وإشقاء وأمور كثيرة: * بدأ بفعل القول ﴿وَقِيلَ﴾ والقول يقال لمن يسمع ويعقل، ثم نادى ﴿يَا أَرْضُ﴾ والمنادى عندما تناديه ينبغي أن يعلم أنه نودي حتى يسمع أو تبليغه بأمر، ثم أُمِر على سبيل الحقيقة وليس على سبيل المجاز ﴿ابْلَعِي﴾ كان القول على سبيل الحقيقة والنداء على سبيل الحقيقة والأمر على سبيل الحقيقة والمأمور ينبغي أن يكون عالمًا بما أُبلِغ به ثم ينُفِّذ، وهذا يدل على أن الأرض والسماء سمعتا وعقلتا وامتثلتا، إذن ليس هذا مثل نداء من يؤمر على سبيل المجاز مثل (يا ليل طُل يا شوق دُم) . * ﴿وَقِيلَ﴾ لم يذكر القائل تعظيمًا له عز وجل ليبين سلطانه أنهما عرفتا القائل ونفّذتا لأنه لا تستطيع أي واحدة منهما أن تخالف هذا الأمر. * حرف النداء ﴿يا﴾ للبعيد، والله يأمرها ﴿يَا أَرْضُ﴾ من فوق سبع سموات فتستجيب، هذا بُعد منزلة يدل على عظمة المنادي. * ناداها باسم الجنس ﴿يَا أَرْضُ﴾ كما تقول يا رجل إفعل، ولم يقل يا أرضي، كما تقول يا أخي، يا صاحبي، ولم يضفها لم يقل يا أرض البركة يا سماء الخير، جرّدها من كل إضافة أو وصف تشريف لأن المقام مقام تعظيم وأمر وسطوة وعقوبة. يا أرض، يا سماء، فيها قوة، ليس فيها تودد، لتستجيب ﴿يا أرض﴾ وبالتالي (يا سماء) . * لم يقل (يا أيتها الأرض) لأنه في النحو لو نُعرِب يا أيتها: يا للمنادى الهاء للتنبيه، هي لا ينبغي أن تكون غافلة عن أي حرف حتى تحتاج إلى تنبيه، هذا أمر الله، لا يقال لعله لم يسمع، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ هذا الإنسان قد يكون غافلًا. * ﴿ابْلَعِي مَاءكِ﴾ إبلعي أوجز من ابتلعي ابتلع على وزن افتعل فيها تكلف واجتهاد وفيها تأخر في الوقت مثل صبر واصطبر، هذه ليس فيها انتظار ابلعي الآن ليس فيها تأخر ولا تكلف ولا زمن إضافة إلى الإيجاز فيها. * ذكر تعالى الماء مع الأرض ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ﴾ ولم يذكره مع السماء ﴿وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾ ولو قال يا أرض ابلعي ماذا تبلع؟ الآمر عظيم قد تبلع كل من عليها تبلع التلال الجبال وساكنات الماء والأشجار لا يبقى فيها شيء، هذا أمر الله تنفذ ما يقال لها فلا بد أن يحدد. * ﴿مَاءكِ﴾ أفادت هذه الإضافة أن الماء ماؤها، ما أنزلت السماء هو من الأرض، من التبخر، هو ماؤك ليس غريبًا عنك. * قدّم هنا الأرض على السماء وفي سورة القمر في نفس القصة قدّم السماء على الأرض: في هود قدّم أمر الأرض حتى ترسو السفينة وهذا مطلوب لأهل السفينة إن لم تبلع الماء كيف ترسو وكيف يخرجوا منها؟، ثم يقال إن الماء بدأ منها ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ هذه علامة على بدء الطوفان، ولم لم يذكر هنا أن السماء تنزل ماء أصلًا، بينما في القمر ذكر. في القمر قدم السماء (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا) الواو لا تفيد لا ترتيب ولا تعقيب. قبلها قال ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ ﴿فَفَتَحْنَا﴾ الفاء فيها سرعة استجابة الدعاء فتحت أبواب السماء لدعائه بماء منهمر لم يقل هناك مثل هذا الأمر، هذه مناسبة للدعاء، (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢)) التقى بماء الأرض إذن ماء الأرض كان موجودًا وإنما فقط تقدم بالدعاء إذن لا تختلف هذه عن هذه. هناك أسبقية، ماء الأرض أسبق لكن السياق يختلف. التقديم والتأخير بحسب السياق. * ﴿وَغِيضَ الْمَاء﴾ فِعلها غاض بمعنى ذهب ونشف، لاحظ الاستجابة على الفور امتثالًا لأمر الآمر، لم يقل فبلعت الأرض ماءها ولم يقل أمسكت السماء، هذا الحذف يظهر لنا عظمة الموقف كله. * ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ لم يذكر الفاعل أي السفينة فهي معلومة ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾، ونسب الجريان إليها ماذا تفيدنا الآن لو قال السفينة؟ إضافة إلى الإيجاز الذي فيها. * ﴿وَقِيلَ بُعْداً﴾ بنى الفعل للمجهول، من القائل؟ القائل هو الله والملائكة والصالحين كلهم يقولون بعداً للقوم الظالمين. * قال ﴿بُعْدًا﴾ بالمصدر ليدل على الثبوت بينما الفعل يدل على الحدوث والتجدد، ولأن المصدر لا يحتاج إلى زمن ولا إلى فاعل فهو متناسب مع الإيجاز. * ﴿لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ جاء باللام التي هي للاستحقاق يعني إستحق هؤلاء البعد لظلمهم هذا. * بُعدًا للظالمين تحديدًا لأنه وصفهم بالظلم أولًا قال ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ ذكر الوصف الذي إستحق به القوم هذه العقوبة وهذا تحذير لكل ظالم وهذه عِلّة الهلاك.

ﵟ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﵞ سورة هود - 44


Icon