الوقفات التدبرية

آية (١٢٨) : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم...

آية (١٢٨) : ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾ * هنا قدّم ﴿قَبْلَهُم﴾ بينما أخرها في آيات أخرى: لغويًا: يجوز التقديم والتأخير لكن يبقى. بلاغيًا: الاختيار البلاغي تقديم ما هو أهمّ، فتقديم الظرف ﴿قبلهم﴾ أو تأخيره بحسب القصد والسياق؛ فإذا أراد تهديد المشركين الذين في زمن الرسول قدّم الظرف ﴿قبلهم﴾ لأن الظرف متعلق بهم والضمير مضاف إليهم وإذا لم يرد ذلك أخّر. - ورد التقديم في ثمانية مواطن كلها تهديد ((٦) الأنعام) ((٧٤) مريم) ((٩٨) مريم) ((٣٦) ق) ((١٢٨) طه) ((٣١) يس) تهديد وهكذا، تقديم ما يتعلق بهم هو يعني تهديدهم بخلاف التأخير. - ورد التأخير في موضعين فقط تأخّر الظرف وليس فيهما تهديد؛ في الإسراء (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)) السياق ليس فيه تهديد وإنما ذكر القرون على العموم، وفي يونس (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)) المقام في جعلهم خلائف وليس في إهلاكهم، قال ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ . * الفرق بين ﴿أَوَلَمْ﴾ و ﴿أَلَمْ﴾ : ألم كلمتان و﴿أَوَلَمْ﴾ ثلاث كلمات. الهمزة حرف استفهام، ﴿لم﴾ حرف جزم ونفي وقلب، واو العطف وهو يأتي بعد الهمزة لا قبلها تقول أولم، أفلم، أَثُمَّ. ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ﴾ جاءت في خمسة مواضع ليست في سياق عطف. ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ بالعطف وردت في ١١ موضعاً في سياق عطف. الآية هنا لم يتقدم قبلها التنبيه والتهديد المتكرر الذي يستدعى التقريع والتوبيخ بمقتضى الهمزة الداخلة على واو العطف. * الفرق بين ألم يروا، ألم يهد لهم: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ يعني أولم يعلموا، ذكر هذا التعبير في يس (٣١) وفي الأنعام (٦)، ويستعمل فعل الرؤية في سياق ذكر العقوبات الدنيوية، التي حدثت في الدنيا باعتبار أن هذه ممكن أن تُرى آثارها، (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ...فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦)) (وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (١٠) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) الأنعام) هذه كلها عقوبات في الدنيا آثارها موجودة تُرى. (أَوَلَمْ - أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا) يعني ألم يتبين لهم، وتأتي في سياق عقوبات وأحوال الآخرة لأنها من باب التبصر الذهني وليست من باب الرؤية، كما في السجدة (٢٦) وفي سورة طه (١٢٨) . * ﴿مِن قَبْلِهِم﴾ ﴿من﴾ تفيد ابتداء الغاية فيها التصاق أي الذين يسبقونهم مباشرة، وإهلاك القريب فيه تهديد وتوعد أكبر، يكون قريباً منك وشوهد وهو أردع وأدل على العبرة من إهلاك البعيد في الزمن السحيق. * ختمت الآية ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾ ولم يقل (إن في ذلك لآيات لهم) كما قال ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ ليحصر فائدة هذه العبر عند أصحاب العقول للإيحاء إلى أن الذين لم يتعظوا بهذه الآيات ولم يهتدوا بها هم عديمو العقل.

ﵟ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ ﵞ سورة طه - 128


Icon