الوقفات التدبرية

آية (٣٩) : (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي...

آية (٣٩) : ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ * ﴿فَنَادَتْهُ﴾ بدأت الآية بالفاء العاطِفة إيذاناً بسرعة الإجابة لدعاء زكريا، ثم عبّر عن البشرى بالنداء وكأنه نداء من بعيد تعبيراً عن فرح الملائكة العظيم باستجابة الله تعالى لدعاء زكريا. * ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ جبريل عليه السلام الذي ناداه ولكن جاء هذا القول الحق لنفطن إلى أن الصوت له جهة يأتي منها، أما الصوت القادم من الملأ الأعلى فلا يعرف الإنسان من أين يأتيه، إن الإنسان يسمعه وكأنه يأتي من كل الجهات، وكأن هناك ملكا في كل مكان. * التذكير أوالتأنيث مع الملائكة في القرآن الكريم: في سورة آل عمران جاءت الملائكة بالتأنيث وفي سورة ص (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣)) بالتذكير. الحكم النحوي: يجوز تأنيث الفعل أو تذكيره إذا كان الجمع جمع تكسير كما في قوله تعالى ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ و﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾. اللمسة البيانية: في الآيات خطوط تعبيرية هي التي تحدد تأنيث وتذكير الفعل مع الملائكة في القرآن الكريم كله وهي: ١- كل فعل أمر يصدر إلى الملائكة يكون بالتذكير (اسجدوا، أَنبِئُونِي، فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). ٢- كل فعل يقع بعد ذكر الملائكة يأتي بالتذكير ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم﴾ ﴿وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ﴾. ٣- كل وصف إسمي للملائكة يأتي بالتذكير ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾ ﴿بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ﴾ ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ ﴿مُرْدِفِينَ﴾ ﴿مُنزَلِينَ﴾ . ٤- كل فعل عبادة يأتي بالتذكير ﴿فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ﴾ ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ لأن المذكر في العبادة أكمل من الأنثى. ٥- كل أمر فيه شِدّة وقوة يأتي بالتذكير ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ بالتذكير لأن العذاب شديد، أما في قوله ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ بالتأنيث. ٦. كل بشارة في القرآن الكريم تأتي بصيغة التأنيث كما في قوله تعالى ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ﴾ و﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ﴾. * الفرق التعبيري والبياني بين قصة زكريا عليه السلام في سورتي مريم وآل عمران (٣٨ - ٤١) : إذا استعرضنا الآيات في كلتا السورتين: سورة آل عمران (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (٤١)). سورة مريم (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (٦) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً (٧) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (٨) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (١٠) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (١١)) سياق القصة سورة آل عمران البشارة بيحيى أكبر وأعظم مما جاء في سورة مريم ﴿أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ فكان التفصيل بالصفات الكاملة في آل عمران ليحيى أكثر وهذه البشارة لها أثرها بكل ما يتعلق بباقي النقاط في الآيتين. سورة مريم (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً (٧)). ذكر وضعية زكريا وقت البشارة سورة آل عمران البشارة جاءت لزكريا وهو قائم يصلي في المحراب فذكر الوضعية التي تناسب عِظم البشارة. سورة مريم وردت أنه خرج من المحراب ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾. الكبر بلغ زكريا أو زكريا بلغه سورة آل عمران ذكر أن الكِبر بلغه ﴿بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ فكأن الكبر هو الفاعل يسير وراءه حثيثاً حتى بلغه، ولم يأتِ هو إليه. سورة مريم ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً﴾ كأنه هو الذي بلغ الكِبر. تقديم أو تأخير مانع الذرية من جهة زكريا على جهة زوجته سورة آل عمران - زكريا عليه السلام قدّم مانع الذرية من جهته على جهة زوجته ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ وهذا ناسب أمره هو بالذكر والتسبيح. - العقر إما أن يكون في حال الشباب أو أنه انقطع حملها عند الكبر، أما العقيم في اللغة هي التي لا تلد مطلقاً. في آل عمران قال ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِر﴾ من حيث اللغة يحتمل أنه لم تكن عاقراً قبل ذلك. سورة مريم - أما في مريم فقدّم مانع الذرية من زوجته على الموانع فيه (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (٨)) وهذا ناسب الأمر لغيره بالتسبيح. - ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً﴾ تفيد أنها كانت عاقراً منذ شبابها فقدّم ما هو أغرب. ثلاثة أيام وثلاث ليال سورة آل عمران عِظم البشارة يقتضي عظم الشكر لذا قال ﴿آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً﴾ فاليوم أبين من الليل بالإظهار والذكر في الليل أقل منه في النهار والآية أظهر وأبين في النهار من الليل. سورة مريم ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾، واليوم هو من طلوع الشمس إلى غروبها، أما الليل هو من غروب الشمس إلى بزوغ الفجر، ولا يستطيع زكريا عليه السلام أن يكلّم الناس ثلاث أيام بلياليهن لكن جعل قسم منها في سورة آل عمران وقسم في سورة مريم. الجمع بين الذكر والتسبيح والفرق بين تسبيح زكريا وتسبيح قومه سورة آل عمران - طلب الله تعالى من زكريا أن يذكره كثيرا وطلب منه الجمع بين الذكر الكثير والتسبيح ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار﴾. - الذكر والتسبيح يقوم بهما زكريا نفسه وهو أدلّ على عِظم شكره لله تعالى من تسبيح قوم زكريا وهذا مناسب لعِظم البشارة. سورة مريم - أما في مريم فقال تعالى على لسان زكريا مخاطباً قومه ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ زكريا هو الذي طلب من قومه أن يسبحوا الله. تقديم العشي على الإبكار أو تأخيرها وتعريفها أو تنكيرها سورة آل عمران - لما ذكر ﴿ثلاثة أيام﴾ وجب تقديم العشي وهي من صلاة الظهر إلى المغرب ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار﴾ ولو قال بالإبكار والعشي لذهب العشي بدون تسبيح فحتى لا يترك شيئاً من الوقت لا بد أن يقول هذا - ال تفيد العموم، وهي أدلّ على دوام عظم الشكر لتناسب عظم البشارة. ولم يقل صباحاً ومساء لأن الصباح والمساء يكون في يوم بعينه. سورة مريم - لمّا ذكر الليل ﴿ثلاث ليال﴾ قدّم بكرة على عشيا ﴿ان سبحوا بكرة وعشيا﴾ بعد الليل تأتي البكرة وهي من الفجر إلى طلوع الشمس، لو قدّم العشي معناه بكرة اليوم انتهت بدون تسبيح ، هو يريد النهار والليل كله يريده تسبيحاً متصلاً، عندما قدم الأيام يجب أن يبدأ بالعشي ولما ذكر الليل قدّم البكرة، لو قدم وأخر يضيع قسم من التسبيح، فقدّم ما هو أدلّ على الشكر في الآيتين.

ﵟ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﵞ سورة آل عمران - 39


Icon