الوقفات التدبرية

آية (٣) : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) * ذكر اللغو...

آية (٣) : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ * ذكر اللغو بعد الخشوع في الصلاة: - ألطف شيء وأبدعه، فاللغو هو السقط، وما لا يعتد به من كلام وغيره ولا يحصل منه فائدة ولا نفع، وهو جماع لما ينبغي تركه من قول وفعل، وإن الخاشع القلب الساكن الجوارح أبعد الناس عن اللغو والباطل إذ الذي أخلى قلبه لله وأسكن جوارحه، وتطامن وهدأ ابتعد بطبعه عن اللغو والسقط وما توجب المروءة اطّراحه، وجاء في (الكشاف) : "لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف" والحق أن الخشوع فيه من الفعل جمع الهمة وتذلل القلب وإلزامه التدبر والخشية، وفيه من الترك السكون وعدم الإلتفات وغض البصر وما إلى ذلك. - السورة شاع فيها جو الترك والإعراض وذم اللغو بأشكاله المختلفة والدعوة إلى الحق وذم اللغو في القول والعمل: --- قال (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا (٥١)) والعمل الصالح مناقض للغو وعمل الباطل. --- قال (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))، والغمرة هي ما هم فيه من لغو وباطل. --- قال (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١)) والمسارعة في الشيء ضد الإعراض عنه، و﴿الْخَيْرَاتِ﴾ ضد اللغو والباطل. --- قال في وصف الكفار (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧))، والنكوص هو الإعراض، والهجر من اللغو، وهو القبيح من الكلام والفحش في المنطق. --- قال (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠)) ﴿بِهِ جِنَّةٌ﴾ من اللغو، ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ من الإعراض النفسي. --- قال (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)) . --- قال فيهم (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤)) وتنكب الصراط إعراض عن الحق. --- قال فيهم (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)) والطغيان هو الباطل وهو من اللغو. --- قال (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)) والعبث من اللغو واللهو، ووصف الله نفسه بالحق، والحق نقيض الباطل والباطل من اللغو. --- قال (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠)) ، والحق نقيض الباطل، واللغو والكذب من اللغو في القول. * ﴿عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ أبلغ من (لا يلغون) جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، ذلك أن الذي لا يلغو، قد لا يعرض عن اللغو بل قد يستهويه، ويميل إليه بنفسه ويحضر مجالسه، أما الإعراض عنه أبلغ من عدم فعله، ذلك أنه أبعد في الترك، فإن المعرض عن اللغو علاوة على عدم فعله ينأى عن مشاهدته وحضوره وسماعه، وإذا سمعه أعرض عنه، فهم لم يكتفوا بعدم المشاركة فيه، بل هم ينأون عنه. * قدم الجار والمجرور ﴿عَنِ اللَّغْوِ﴾ للاهتمام والحصر، إذ المقام يقتضي أن يقدم المعرض عنه لا الإعراض فإن الإعراض قد يكون إعراضًا عن خير كما قال تعالى: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)) كما أنة فيه حصر لما يعرض عنه، إذ الإعراض لا ينبغي أن يكون عن الخير، بل الخير ينبغي أن يسارع فيه. * قال ﴿مُعْرِضُونَ﴾ وليس ﴿يعرضون﴾ لأن إعراضهم عن اللغو وصف ثابت فيهم وليس شيئًا طارئًا، وهو مع ذلك متناسب مع ما ذكر فيهم من الصفات الدالة على الثبوت.

ﵟ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﵞ سورة المؤمنون - 3


Icon