الوقفات التدبرية

آية (٢۷) : (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ...

آية (٢۷) : ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ * الفرق بين ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ في سورة هود و (فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (٢٧) المؤمنون) : الدلالة مختلفة، سلك هو النفاذ في الطريق، اسلك معناها أدخِل ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء﴾ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ أما احمل فمن الحِمل معروف ويكون بعد السلوك أولاً يدخل السفينة ثم يحمل، في قصة نوح نفسها متى قال أُسلك؟ ومتى قال احمل؟. آية هود جاء الأمر وصنع الفلك فقال فيها احمل (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ... قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا ...) وفي سورة هود ذكر ما دلّ على الحمل لأن الحمل جاري في السفينة (حمل السفينة للأشخاص) ﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ بمعنى تحملهم ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ﴾ بينما في آية المؤمنون قالها قبل الفعل ولم يذكر الحمل أو صورة الحمل ﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ . * في سورة المؤمنون ﴿إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾ وفي آية سورة هود لم ترد )منهم) : سورة هود مبنية على العموم ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ أعمّ من ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾، وكذلك الآيات ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ ﴿بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ ذكر تعالى السلام والبركات وهذا دليل العموم، أما في سورة المؤمنون فالسياق في التخصيص فلم يذكر السلام والبركات وإنما خصص كما في الآية ﴿أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُبَارَكًا﴾، ولهذا ذكر ﴿مِنْهُمْ﴾ و﴿فَاسْلُكْ﴾ . * كلمة اثنين ترد أحيانًا مع زوجين ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ وأحيانًا لا ترد (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) الذاريات) : اثنين معناه ذكر وأنثى، في آية الذاريات قال ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ وهذا ليس مقصوداً فيه الذكر والأنثى وإنما عموم المتضادات والمتقابلات مثل البروتون والإلكترون، هذان زوجان. الزوج هو الواحد في الأصل ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ الزوج هو واحد وتطلق على الذكر والأنثى، الرجل زوج والمرأة زوج والاثنان زوجان وهذه أفصح اللغات. * كلمة ﴿وَأَهْلَكَ﴾ الحكم القاطع هو أنها إسم بمعنى الأهل وهناك مرجحات: - الآية تشير أن الهلاك لم يحصل بعد لأنهم لم يركبوا، فلا يصح أن تعتبر كلمة ﴿وَأَهْلَكَ﴾ بمعنى الإهلاك. - لو كان ﴿وَأَهْلَكَ﴾ فعل بمعنى الهلاك عادة يكون الاستثناء مفرّقًا والاستثناء المفرّق لا يكون إلا مسبوقًا بنفي أو ما يشبه النفي وهنا مفرّق لكن ليس مسبوقاً بنفي وهذا ما يُضعّف أن يكون أهلك بمعنى فعل الإهلاك. - في آية سورة المؤمنون (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (٢٧)) فالضمير يعود على الأهل ونستدلّ من هذه الآية أن المقصود هو الأهل وليس فعل الإهلاك. - أما ما يقطع بأن المقصود هم الأهل فهو أنه لو كان أهلك فعل ماضي سيكون الناجون ما ذكر بعد الاستثناء قسمين الأول ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ والثاني ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ ومن سبق عليه القول ليسوا مؤمنين لكن في الواقع أن الناجين هم المؤمنون فقط لذا فلا يمكن ولا يصح أن تكون النجاة لغيرهم. * في هود (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (٣٦)) جاءت بالمبني للمجهول مع أنه هنا يقول (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ (٢٧) المؤمنون) : في المؤمنون نوح دعا ربه لكي ينصرنه ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ هو يريد النصر من الله حصراً فاستجاب له، من دعاه أجابه وقال ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ بالمعلوم، ما قال أُوحي إليه، الفاء هنا تعقيب يعني مباشرة ﴿رَبِّ انصُرْنِي﴾- ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾، والملاحظ في القرآن كله إذا جاء فعل أمر بعد فعل الإيحاء يذكر الفاعل ولا يبنيه للمجهول مثلاً ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾، ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾، ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾، ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾. ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ . في هود ليس هناك دعوة فقال ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ﴾ مبني للمجهول.

ﵟ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﵞ سورة المؤمنون - 27


Icon