الوقفات التدبرية

*ما تفسير قوله تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ) و لمَ لم...

*ما تفسير قوله تعالى ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ و لمَ لم يقل: لكن البر أن تؤمنوا باعتبار أن البر هو الإيمان لا المؤمن ، وليناسب الجزء الأول من الآية الذي أتى بالخبر مصدرا؟ قال تعالى: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة:177). "يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (البقرة:189). جاء في الآية بالمصدر المؤول (أن تولوا = التولية )، فافترض بعضهم أن يستعمل المصدر في الجزء الثاني من الآية أيضا ليتناسب مع المصدر في بدايتها فيقول: ولكن البر أن تؤمنوا، وكذلك في الآية الثانية. الجواب: في لغة العرب يمكن أن يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى: "واسأل القرية"، ففيها مضاف محذوف (واسأل أهل القرية) فحذف كلمة ﴿أهل﴾ وجعل كلمة ﴿قرية﴾ مكانها، وأخذت موقعها الإعرابي. فعندما يقول: "ولكنّ البِرّ مَن اتّقى" كأن هذا المتقي صار هو البر بعينه. فالبِر الحقيقي هو هذا الذي وصفناه بهذه الكلمة، البر هو هذا الذي اتقى أو هذا الذي توفرت فيه هذه الصفات. ولو عدنا إلى الآية لتوقفنا فيها أكثر من وقفة: ـ هدف الآية. ـ الإفراد في الصفات ثم الجمع. ـ نصب الصابرين . ـ الرق والإسلام. ـ توجيه رباني من الآية الثانية. أصل الكلام في الآيتين هو قضية أي قبلة أولى بالاتجاه نحوها؟ في أي اتجاه يكون البر ؟ والقرآن يريد أن يبين لمن يسمعه سواء أكان من المسلمين أو من غيرهم ما البر الحقيقي؟ فقال: "لَيسَ البرّ أنْ تولوا وُجوهَكم" نلحظ أنه استعمل الفعل المضارع بمعنى التحول والتحرك أي تولية الوجه، ووصف البر بأنه من تتمثل فيه هذه الصفات، وهي من الآيات الجامعة تبين لنا أن البر يكون ممثلا كاملا في هذا الإنسان المتصف بهذه الصفات. وتمضي الآية تعدد صفاته: ـ الإيمان بالله بكل ما يقتضيه من تطبيق ومن اعتقاد ـ ثم انتقل إلى الغيبيات من الإيمان باليوم الآخر والملائكة ـ والكتاب: ونلحظ استعمال الجنس ﴿الكتاب﴾ أي جنس الكتاب. ـ والنبيين: استعمل النبيين دون المرسلين لأن النبوة أوسع من الرسالة، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، ـ ثم انتقل إلى المعاملات : "وآتى المال على حبه" ـ ثم بين نوع الإيتاء، فهو ليس من الفرض. ـ وبين الفئات التي يصلها العطاء وتستحقه، فبدأ بذوي القربى من باب حرصه على الأرحام، وثنى باليتامى ثم بالمساكين الذ ين يحتاج المرء إلى البحث عنهم ليعرفهم، وهذا من التوجيهات الاجتماعية القرآنية في الرعاية المالية، ثم ذكر ابن السبيل ليطمئن المسلم على نفسه أنى كان فإذا انقطع به المال فى سفر فإن له حقا في هذا المال، وذكر السائلين (من سأل بالله فأعطوه) فلا يبحث المرء أمحتاج هذا السائل أم لا؟ما دام يسأل فعلي أن أعطي إن كنت قادرا، والسائلون ليسوا هم المساكين. ثم ختم بالرقاب، وهذه الكلمة يثيرها بعض من لم يطلعوا على حقيقة الإسلام شبهةً ضده فيقولون: إن الإسلام يقر الرق ويدعو إلى العبودية. والحقيقة هي أن الاسلاموأبقى منفذا واحدا للرق وهو (رقيق الحرب) ثم فتح أبوابا لإخراج العبد من حالة عبوديته بالصدقات والكفارات والترغيب في العتق، وبابا آخر وهو(المكاتبة) فيحق لكل فرد من الرقيق أن يذهب إلى القاضي ويطلب مكاتبة سيده، فيرغمه القاضي على المكاتبة إلى أن يتخلص العبد من الرق.وهو من مصارف الإنفاق الطوعي ﴿وفي الرقاب﴾. ـ "وأقام الصلاة" فانقل بعد ذلك إلى تهذيب النفس وصلتها بالله ـ "وآتى الزكاة" وهذا تأكيد على أن الإنفاق المالي المتقدم ليس من الفرض والزكاة، فالزكاة مال تجمعه الدولة وتتولى إنفاقه في مصارفه، أما المذكور سابقا فإنفاق شخصي يختلف عن هذا. وفي أيامنا تركت دول كثيرة جمع الزكاة إلى الناس أنفسهم وهذا امتحان لهم. ثم نلحظ انتقال الحديث إلى الجمع، فالكلام المتقدم إلى الآن فردي، وقد تقدمت ﴿مَن﴾ وهي تحتمل الجمع والإفراد، فبدأ بالإفراد (الإيمان ـ الإنفاق الفردي من رعاية ذوي القربى واليتامى والإنفاق على المساكين، والصلاة والزكاة ) ثم انتقل إلى العمل الجماعي لأن ﴿من﴾ تجمع الاثنين الإفراد والجمع ففي العمل الجماعي ذكر الوفاء بالعهد، ويجوز أن نقول (نحترم من يفي بعهده ـ ومن يفون بعهدهم) لأنها تصدق على الواحد والكثرة. وقد جعل الوفاء بالعهد عاما ليشمل وفاء المجتمع بالعهد، والفرد جزء من المجتمع ، فأي فرد من المسلمين يكن أن يعاهد عن بقية المسلمين، وهم جميعا ملزمون بالوفاء بعهده (يسعى بذمتهم أدناهم). والوفاء بالعهد ليس سهلا على المرء في مواطن كثيرة، إذ يصعب على النفس، وقد تشعر أن فيه هضما لحقها، ونتذكر جميعا كيف كان المسلمون يأتون من مكة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فيردهم وفاء لعهده مع المشركين في صلح الحديبية. ـ والصابرين: وهنا قد يقال إن العطف يقتضي الرفع، وهذا قد يجوز في غير القرآن، ولكن الصبر هنا له منزلة عالية في البأساء والضراء، فنصبها إشارة إلى تخصص الصابرين وتمييزهم بين المذكورين، وتقديرا لفعل محذوف (أخص الصابرين). ﴿أولئك الذين صدقوا﴾ جاء باسم الإشارة ﴿أولئك﴾للبعيد ليقول إن على المسلم أن يسعى ليكون مثلهم ويصل إليهم وإلى هذه الصفات. ﴿وأولئك هم المتقون﴾والسؤال هنا لم جاء بالضمير ﴿هم﴾؟ ﴿هم﴾ ضمير فصل يؤتى به ليميز بين الخبر والصفة، وفيه أيضا معنى التوكيد، ونفي الوصفية التي قد تفهم إن حذف الضمير، فأثبت لهم الخبرية توكيدا وتخصيصا. جاء بعد كل الصفات المتقدمة بوصف المتقين، وهذه الصفة هي نفسها في الآية الثانية "يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ" فبدأ بكلمة التقوى للإيجاز. والقرآن الكريم قد يجاري السائل أحيانا على طريقته في السؤال، فهؤلاء قد سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الأهلة، : ما هي؟ ما فوائدها؟ فجاء الجواب مختصرا "هيَ مَواقيتُ للنّاسِ وَالحَج" وقد كان بعض الأنصار إذا رجع من الحج فلا يدخل من باب الدار، وإنما يأتي من ظهرها ويدخل. فتقول له الآية إن البر ليس بهذا العمل، وقد يكون الأمر من باب توجيه المجتمع المسلم بألا يعكس الأمور بأن يسأل عن المسائل الصغيرة ويترك القضايا الجوهرية، فبدل السؤال عن الأهلة فليتبصروا في خلق الله عز وجل في هذا الهلال كيف يكون وكيف يصير؟

ﵟ ۞ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﵞ سورة البقرة - 177


Icon